عاشت أوروبا في العصور الوسطى حياة ملؤها الجهل والجمود الفكري ، وتحكم فيه رجال دين ضيعوا ناموسهم وسلكوا عوضاً عنه سبيل الإقطاع؛ فأخذوا بتكديس الأموال والضياع وأهانوا العقل البشري أيما إهانة …
عصر تسلط فيه رجال دين ما راعوا تعاليم السيد المسيح عليه السلام برغم إدعائهم أنهم يسيرون على منهاجه ، وفي الحقيقة كانوا يكدسون الأموال والضياع باسم المسيح ويوهمون السذج من المؤمنين بالمسيح أنهم خلفائه ورسل الرب الذين اختارهم ليخلفوا المسيح ، وصدق الناس دعاواهم فازداد القساوسة شرهاً وطمعاً وحباً للمال ، ولأجل تكديس المزيد والمزيد من الأموال أخذوا يبتكرون طرق شتى لسلب وجمع الأموال من أتباع المسيح ، فادعوا أن الله قد أعطاهم الحق في ابتكار وإخراج صكوك الغفران لمن يدفع لنيل هذه الصكوك مهما بلغ من الفجور والظلم والآثام ، فليفعل الإنسان ما يشاء ثم يدفع مالاً لينال صك الغفران الذي يوقعونه بأياديهم الآثمة فإذا هو في جنة الخلد..
وفي المقابل ابتكروا كذلك قرارات حرمان فمهما بلغ الانسان من التقوى والورع ، فـ بمجرد أن يخالف تعاليم آباء الكنيسة إذا بهم يخرجون له قرار حرمان من الجنة فلا يدخلها بزعمهم مهما فعل من خيرات وسيلقى في أعماق الجحيم .
هكذا كانت العصور الوسطى عند الغرب المسيحي .. فضج الناس من هذه الممارسات القمعية وهالهم مايمارسه القساوسة والباباوات من تعذيب يشيب له رأس الرضيع في محاكم التفتيش الرهيبة وسراديبها الموحشة والمظلمة كقلوبهم ، وما يلقاه فيها المعذبون من ألوان التعذيب الذي تقشعر من هوله الأبدان ، فثارت أوروبا وحق لها أن تثور لتتخلص من ظلم أولئك الذين نصبوا أنفسهم آلهة من دون الله في الأرض ، فبقدر ما كان القساوسة يسومون الناس ألوان العذاب قامت الثورة الفرنسية وأذاقتهم ألوان العذاب من القتل والتعذيب والتشريد واتخذوا شعاراً لثورتهم ( اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس ) ، وأخذت الثورة الفرنسية أقصى اليسار المتطرف كما كان الإقطاعيون من رجال الدين يأخذون أقصى اليمين المتطرف ، وفي الحقيقة كلا الفريقين ضل الطريق وحاد عن جادة الصواب ولم يكن لهم نور يستضيئون به ويمشون على ضوئه ..
أقصى اليسار معناه الإلحاد والجحود وإنكار الدين والخالق على حد سواء – نعوذ بالله من الخذلان – … ولكن أوروبا نهضت من الكبوة والسقوط التي صنعها لهم آباء الكنيسة وباختراع العجلة الدوارة والمكنة قامت الثورة الصناعية وبدأت الاختراعات وتحرك العقل الغربي وتحرر من القيد الذي فرضه القساوسة والرهبان إبان سلطتهم على أوروبا كلها .. نعم تحرر العقل الأوروبي فاخذت أوروبا تشيد المصانع وهي في عجلة من أمرها وكأنها تريد أن تستدرك ما فاتها من وقت حين سباتها ونومها لقرون عديدة بسبب تسلط الكنيسة ، لذلك قلما ترى من يؤمن بالخالق وسط ضجيج المصانع والآلات وآمنوا بقوة المكنة أكثر من إيمانهم بالله وأصبحوا يخافون من كل شيء تعلق بالله ، وإذا خاف الانسان من شيء خوفاً شديداً ولم يكن أمامه نور أنكره وعاش في الظلمات وتاه …
ومن هذا كله يجب علينا أن نأخذ العبر والدروس من كل ما يحيط بنا ، ونحن – بحمد الله – لدينا نوران بدل من نور واحد ، قرآن من رب العباد ، وسنة من نبي رب العباد ، فمن تاه بعدهما فليتيقن أن التوفيق قد جانبه ولا يلومن إلا نفسه ، وليفتش بصدق إن أراد الخلاص عن السبب الذي جعله في ضياع وتوهان ، وليعلم البشر أجمعون أن الله غني عن العالمين وانهم هم الفقراء إليه وستنصب الموازين القسط ليوم الحساب وليكونوا على يقين تام أن الله لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض .
إبراهيم يحيى أبوليلى
مقالات سابقة للكاتب