إن هذه الحياة بكل ما فيها من أفراح وأتراح وما ينتاب الناس من شعور الامتعاض واليأس والسأم خلال المراحل العمرية للإنسان لا تدعو الإنسان المتريث والمتفكر تفكيرًا سليمًا سويًا في متغيرات الحياة إلى اليأس والقنوط، بل تجعله وبما حباه الله من طاقة وقوة وتجلد يتعايش مع الواقع أيًا كان.
وهذا العمل لا يتأتى إلا للذين فهموا الحياة فهمًا واعيًا وأدركوا كنه الحياة، لا بعقولهم المجردة فحسب؛ بل بالتعاون والاعتماد على ما جاء به رسل الله الذي يعلم خفايا النفس الإنسانية.
إن محاولة حل أي معضلة تواجه الإنسان بعيدًا عن الاعتماد على الخالق وطلب العون منه ستبقى مجرد مسكنات لتلك الأزمات، ولن يكون علاجًا ناجعا يقضي على القلق والسأم جراء الضغوطات النفسية التي تتحول رويدًا رويدًا حتى تصل بالإنسان إلى درجة اليأس والقنوط، فتنقلب على إثر ذلك حياة الشخص إلى ما يشبه التشاؤم من الحياة برمتها، كما حصل مع كثير من الفلاسفة المتشائمين أمثال آرثر شوبنهاور، وتلميذه فردريك نيتشه، حتى أعلن أحدهم عندما بلغ منه القنوط والتشاؤم مبلغه بأن الحياة برمتها وبكل ما فيها من جمال ومتعة ولو إلى حين (كبندول يتأرجح من السآمة إلى اليأس ومن اليأس إلى السآمة) وهذه العبارة تجسد قمة التشاؤم، وصدق الله العظيم حين قال ( وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ) والتعلق بالمادة الصرفة دون الروحانيات تحول الحياة إلى ملل وسأم، ومن ثم إلى تشاؤم يؤدي إلى كره الحياة كرها لا يطيب معه عيش أبدًا.
إن تراكم المشكلات في الحياة دون محاولة حلها تباعًا تجعل المرء ينظر إلى الحياة نظرات سوداوية وكأنه يرتدي نظارة سوداء لا تزول عن عينية في ليل أو نهار، والبعد عن الله وتعاليمه وناموسه هو السبب المباشر لحالة القنوط هذه.
وإن الذي يقرأ عن أولئك الفلاسفة قراءة مستفيضة وما دفعهم إلى ذلك اليأس يجد أنهم يحاولون التأقلم مع الحياة ماديا فقط، برغم أن نيتشة كان أبوه قسيسًا، وهو كذلك في صغره كان متعلقًا بل متدينًا حتى لقب بالقسيس الصغير، فما الذي جعله يتحول هذا التحول المفاجئ وإلى النقيض تمامًا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار؟ وفي أقصى اليسار هناك يقبع الإلحاد!
السبب هو فهم الدين أو تلقي الدين من قبل رجالات الكنيسة بطريقة مغلوطة، وعندما يمعن المتلقي من أتباع الكنيسة تلك التعاليم، عندما يمعن الفكر والعقل يجد أن هناك بون شاسع بين ما يقولونه وما كان من المفترض أن يكون ويتماشى مع الفطرة السوية، فعقل الإنسان الواعي بطبيعته يكتشف أي تلاعب بالفطرة السليمة فيرفض كثيرًا من تعاليم آباء الكنيسة، لذا نجدهم دائمًا ما يطلبون من أتباعهم عدم التطرق لما يلقونه من قداس، وعدم الجدال ومناقشة ما يعطونهم من تعاليم وإلا وصل المجادل إلى الهرطقة والتجديف.
وصدق الله تعالى إذ يقول ( وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ )، إن السبب المباشر لليأس والتشاؤم هو الانغماس في الملذات واتباع الهوى والبعد عن كل ما هو روحاني، والتقلب في المادة ثم المادة فقط.
ولقد كان اليائس البائس جان بول سارتر، صاحب النظرية الوجودية والتي تتلخص كما وصفها أحد الكتاب في هذه العبارات المليئة بالشك بل التجديف “وللمذهب السارتري أركانه أيضًا، ما هي؟ أول شرط: الغش.. واستجابة داعي الحيوانية، وتلبية كل ما تمليه علينا شهواتنا، ونبذ كل التقاليد والتعاليم المجتمعية، وما تواطأ عليه الناس من الجهة الأخلاقية، وتحطيم القيود التي أبتدعتها الأديان والفلاسفة وتبنتها المدنية، فأركب رأسك أيها الإنسان إلى حيث تشاء ساعة تشاء، وكما تشاء، لأن الضمير والأخلاق والتقاليد ليست سوى ستار صفيق يحجب عنك حقيقة الوجود!” هذه هي الفلسفة الوجودية التي جاء بها سارتر، ولكن الفطرة السوية التي فطر الله الناس عليها تتلخص بكل جمالها وجلالها وكمالها في قول الله تعالى ( أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ).
هذه الآية لم تمر على خاطر شبنهاور عندما جثم التشاؤم والقنوط على قلبه ونفسه، ولا نيتشة عندما اتبع معلمه وأستاذه في هذا المجال، ولا سارتر صاحب الوجودية، ولا غيرهم من أقطاب الإلحاد الذين نشروا أفكارهم وفلسفتهم الإلحادية حتى تبناها أقوام كان لهم من الله نور فحادوا عنه لحب الشهوات بكل أنواعها، ورأو أن الدين يقيدهم عن الانطلاق، وهم يريدونها حرية مطلقة بدون أية ضوابط أو قيود فتاهوا، والتائه في ظلمات الضلال أنى له رؤية نور الحق؟ فاللهم أنزل على قلوبنا الإيمان الكامل واليقين الصادق حتى نلقاك وتولنا برحمتك.
إبراهيم يحيى أبوليلى
مقالات سابقة للكاتب