عندما تُغتَال الضمائر

إن هذا العالم أصبح يقسو على نفسه قسوة لا نظير لها، وقسوته على نفسه تتمثل في تفنن الناس وابتكار واختراع طرق وأساليب جديدة للقسوة على بعضهم البعض؛ حتى فقد بعضهم شعورهم بألم القسوة واستمرؤوها وتعايشوا معها فأصبحت وكأنها جزءًا لا يتجزأ من حياتهم وأحاسيسهم إن بقيت لهم أحاسيس.

أصبح العالم لا يضيره بكاء الأطفال وصراخ اليتامى والأيامى والثكالى، يجلس أفراده على مائدة الطعام ويتناولون غذاءهم وفي نفس الوقت ينظرون إلى شاشات التلفاز على الفظائع دون أن تهتز منهم شعرة أو يغصون بلقمة أو يشرقون بجرعة من شدة الأهوال التي تعرض أمامهم، لوأن هذه المناظر تعرض ليل نهار فقد ألفوها وأصبح الأمر جد عادي، ويروح الناس ويغدون على أعمالهم ولعبهم ولهوهم لا تدمع أعينهم أو تخفق قلوبهم طالما أن النار لم تصل إلى أطراف أرديتهم فهم في لهوهم ماضون سائرون.

أيمكن أن يكون الجنس البشري بهذه القسوة؟ لقد صنع الإنسان لأخيه الإنسان أسلحة لو نطق ساكنو الغابات من المفترسات لقالوا ما أفظعك يا ابن آدم! نعم اخترع البشر ما يسمى بصناعة الجوع وصناعة المرض وصناعة الفقر، فالفقراء يزدادون فقرًا والأغنياء يزدادون غنىً وثراءً، والشيوعية تزعم أن الحق لها ومعها، والرأسمالية تنكر عليها قولها وتدعي أنها صاحبة الحق في قيادة العالم.

والفقير لا يعنيه تصارع القطبين، هو لا يفهم في تعقيدات السياسة أو الاقتصاد ولا مسمياتهما ولا مداخلهما ومنعطفاتهما، هو يعرف فقط أنه سيكون جد سعيد لو توفرت له في خضم البهرجة والجدال لقمة يسد بها جوع أبنائه ومن يعولهم.

بكى الفقراء فلما لم يجدوا التفاتة من الأغنياء مثّلوا بأنهم سعداء وضحكوا حتى الثمالة وفي قرارة أنفسهم أخذوا ينشدون قول الشاعر (كلما التأم جرح جد بالتذكار جرح) أرادوا تضميد جراح آلامهم فلما لمسوها ووجدوا أنها لا تألمهم أدركوا حينها أنهم فقدوا الإحساس بالألم، وهذا الشعور هو أشد ألمًا من ألم الجراح؛ فعندما تفقد الإحساس بالألم في عضو تدرك أن ذاك العضو أصابه الشلل وأصبح عديم الفائدة ويجب بتره.

لا يبالي الناس ببعضهم وكأنهم غرباء وليسوا إخوة من أم واحدة وأب واحد، برغم الادعاء أن العالم اليوم في أعلى درجات العلم والمعرفة وهو يجهل أبسط حقوق أخيه الإنسان، وهذا الأمر لا يحتاج إلى كثير علم أو معرفة فهو شعور وإحساس ولكن أين الشعور؟

العالم يصم آذانه ويغمض عينيه ليس لأن مناظر الثكالى وبكاء اليتامى يؤلمه، أبدًا، بل لأنه لايريد أن تشغله هذه المناظر عن الاستمتاع بحياته المترفة، وقد يتجرأ البعض منهم ويقول ما فائدة هؤلاء البؤساء وما الجدوى والغرض من وجودهم أصلا سوى تعكير صفو حياتنا وفقداننا الشعور بالمتعة التي نحن أحق بها ولم تخلق إلا لنا، إذًا لا ضير في فنائهم وتخليص العالم المترف منهم أولا، وثانيا لتخليصهم من بؤسهم أو لتخليص البؤس منهم فلا يكون هناك بؤس ولا بؤساء، هذا هو لسان حال العالم اليوم بكل ما فيه من تقدم زائف فقط في عالم الماديات الخالية من أية روح.

فإن كان أحدكم يرى في هذا الكلام تشاؤمًا فعليه أن يأتي بجواب أو علة تعلل ما نحن فيه من بلادة شعور تجاه ما يدور في عالمنا من فظائع وأهوال وقلة احتشام وتردي خلقي وتفسخ أخلاقي مقنن ومنظم واحتقار وازدراء كل ما هو قيم جميل في عالمنا اليوم.

تغتال الضمائر عمدًا دون رحمة أو شفقة، نعم فليذهب الفقراء الى الهاوية لتخلوا الأرض بكل ما فيها لمن يظنون أن الدنيا إنما خلقت لهم وحدهم دون سواهم من بني جنسهم، هذا إن اعترفوا أن هناك في العالم مخلوقات تشبههم شكليًا غير ما يشاهدونهم أمامهم ويتعاملون معهم، وإذا أردتم دليلاً على ذلك أجيبوني عن معنى قول هتلر سأسلم الأرض إلى الله فارغة كما خلقها، وكان يرى أن بعض الناس إنما هم دون البشر ولا يستحقون العيش أبدًا، هذه الفكرة النازية والفاشية وجدت في هذا العالم، ومن ظن أنها بادت واندثرت فهو واهم، وقِس على ذلك كل الفظاعات التي ارتكبها حاملو أيديلوجية هتلر، وإن كانت الأسماء قد تغيرت فروحها باقية في هذا العالم المتحضر زعمًا.

في القرن الواحد والعشرين تُجدد أسواق نخاسة البشر ويتم ترميمها، ويلصق بالإسلام، والقائمون عليها ينتسبون شكليا له وهو منهم براء هذا هو زمن التحضر!

وفي النهاية ومع هذا كله هناك بصيص أمل في الأمة، به وله يعيش أفرادها، ولا يصح إلا الصحيح، ولن يسير الكون حسب أهواء الناس لأن مدبر الكون له حكمة في وجود المتضادات (وعند الله تجتمع الخصوم).

إبراهيم يحيى أبوليلى

مقالات سابقة للكاتب

8 تعليق على “عندما تُغتَال الضمائر

وضاح

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ما انبله من ضمير حي يخاطب ضمائر اغتيلت وضمائر غفت واخرى غفلت يخاطبنا من خلال مقالته بكل انسانيه وشفافيه وصدق ومحبه يقول لنا ان هذا الضمير بذرة غرسها الله في قلوبنا ثمارها قوة خفيه ذات احساس داخلي نميز من خلاله بين الحق والباطل وتفضيل المصلحه العامه على الخاصه ونميز من خلاله ماهو مباح وماهو حرام ونحس باوجاع وعذاب الاخرين ونتعايش معه ويحذرنا من اغتيال الضمير وغفوته وتغافله لانه سوف يفقد الانسان الاحساس بإنسانيته ويغرق في مستنقع ظلمات طغيانه ويتحول لوحش كاسر لا يحس بإلام الاخرين لان الرحمة نزعت من قلبه وتصبح انسانيه لا معنى لها وكما قيل اذا مات الضمير اصبح كل شي مباح

فهنيئا لا صحاب الضمائر الحيه لانهم طبقوا حديث رسول الله صل الله عليه وسلم على واقعهم حيث قال لا يؤمن احدكم حتى يحب لاخيه ما يحب لنفسه هنيئا لهم مره اخرى بالارتقاء من درجة الاسلام الى درجه الايمان انهم اصحاب الضمائر الحيه
استاذنا الفاضل صاحب الفكر الراقي والضمير الحي لقد ابدعت كثيرا في مقالك وايقضت ضمائر غفت وتغافلت نفعنا الله بعلمك وحفظك الله انت ومن تحب

متابع

الأخ الكريم وضاح
قلمك الجميل وحروفك المضيئة حكمة وبلاغة وصدقا تجعلنا أن نطالبك بالكتابة لا الاكتفاء بالردود على المقالات. ننتظر مقالك القادم بكل الشوق . طللبناك !

إبراهيم يحيى أبوليلى

الاخ متابع كم طالبت الاخ وضاح بكتابة المقالات فهو والله دون مجاملة صاحب قلم قوي وعبارات جذلى وفوق ذلك يتسم بالصراحة وينطق بالحق دائما وهو صاحب مبدأ لا يحيد عنه ابدا ونحن في اشد الحاجة الى مثل هذه الاقلام والافكار الراقية التي تنشد الخير لكل الناس وكم اعجبت بطرح اخينا الاستاذ وضاح وانا هنا اشد على يديك واطالب الاستاذ وضاح بكتابة المقالات وعلى القائمين على صحيفتتا الغراء استقطاب مثل هذه الاقلام وليس التعليقات الا مرآة تعكس توجهات المعليقين فهذا رجاء اطلقة من على هذا المنبر الحر ان لا يكتفي الاستاذ وضاح بالتعليقات فوالله وبدون مجاملات كم استفدت مم تعليفاته واعتبرها تكمله لما نقص من مقالي فله جزيله الشكر والعرفان ولكل متابع وقارئ والشكر موصول لصحيفة غران الرائدة وكل الكادر النشط في ايصال المعلومة والاخبار التي تفيد المجتمع .

عبدربه المغربي

اخي العزيز طرحك جميل وأكثر من رائع فهذا الزمن كما قلت لك ذهب الإحساس واهله فماذا تنتظر من لاحس عنده ولا يهمه الانفسه وشهواته وليس عنده مانع ان يمشي على جثث الآخرين في سبيل تحقيق مصلحته أو شهوته ويقول لسان حاله اذهبوا للجحيم لاردكم الله ونسي المسكين قول الحبيب صلى الله عليه وسلم(من لم يهتم بامور المسلين فليس منهم) فكيف بمن يحوك للمسلمين المكر والخديعة والفتن وينفق الأموال الطائلة لزرع الفتن والقلاقل بين الأسر والشعوب والدول وهو منهم.
ان موت الضمير لايجلب الا الدمار والخراب فماذا جلب هتلر لنفسه ولشعوب العالم عامةولاوربا خاصة الا الدمار وهذا كافر وملحد لا يستغرب منه اَي شيء ولكن اذا الضمير مات عند المسلمين فما النتيجة المتوقعة
اسأل الله ان يوقظ ضمائرنا وان يزرع فينا حب الخير والعمل له

عدنان هوساوي

لاشك أن أن دوام الحال من المحال فدلائل صيرورة هذا الكون تتخللها المتغيرات ومن تلك المتغيرات التي تبدل ثباتها هي تحول الضمائر . حتى ضمائر البشر تتبدل وتتحول بل قد تباع وتشترى وليس ادل من ذلك قول المصطفي صلوات ربي عليه حيث قال يصبح الرجل مسلماً ويمسي كافر الحديث
اما فيما يتعلق بالاستاذ وضاح فاني اضم صوتي لصوت الاخ متابع وصوت كاتب المقال الاستاذ ابراهيم ابو ليلى وكل ظني بأن معظم المتابعين يشاركوننا في هذا الجانب فمفرداته اللغوية اجمل من أن توصف والردود ليست كافية لإشباع نهم غريزة الاستمتاع بالقراءة وليست كافية ايضا لأزواء شراهة الاطلاع

تميم

يسعد مسائكم وصباحكم بالخير بصراحه اول مره اتحمس واقرر اشارك وان كان عندي عقده من الحماس الزائد
الكاتب الفاضل بيتكلم عن موضوع مهم جدا يمس حياتنا وتعاملنا مع بعض وان الضمير اذا مات اصبح الانسان شبح وحبه حبه يصير شيطان في جثت انسان وكمان فيه نقطه مهمه في المقال انه تريد ضمير الامه يصحى اول شي صحي ضميرك انت ايه الانسان لانه اذا صحت ضمائر الافراد وقتها راح يصحى ضمير الامه وكما قال الشاعر لا يستقيم الظل والعود اعوج يارب يكون البيت صحيح
معليش الظاهر بديت اتحمس زياده استاذ ابراهيم بقولك شي ياما كسر استاذ العربي العصى على يدي بسب الاعراب وخاصه اذا فيه ضمير مندس يعنى مستتر والا ضمير حط رجله وفقع يعني غايب وتشقلب الزمن وصارت ضمايرنا اللي مندس والا مغمى عليه واللى جاله زهايمر
راح زمان الطيبين بصراحه والله جيت ع الجرح بمقالك هذا
وللامانه انت ووضاح ثنائي مبدع

سمو الذات .

جميل ماخط قلمك،في غياب الضمير اصبح العالم يرقص على جثث الضعفاء،بل تخطى ذلك بالجرم المشهود .واكبر دليل ثكالى الشام اكتفوا فقط بالاخبار واعادة التغريد،والشجب والاستنكار واصبحت جثث الاطفال بالبحر مسرح يرسم،هولاء عديمي الضمير سواء بتجاهل المظلومين وعدم الاهتمام بمصيرهم، المشاعر النبيله اين ذهبت لا اعلم وفيما يخص العالم منذ زمن مات الاحساس الصادق .
احييك ايها الكاتب شكرا لك

وضاح

الاساتذه الافاضل متابع / ابراهيم ابوليلى / عدنان هوساوى السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اتقدم لكم بكل كلمات الشكر والعرفان على الدعوه الكريمه للكتابه في صحيفه غران وهذا الدعوه شرف واعتزاز ووسام افتخر به وكما اتقدم بالشكر والتقدير للاخ الفاضل والصديق الاستاذ بدر سالم الشيخ الذي طلب منى الكتابه قبل سنه تقريبا واعتذرت منه لظروف خاصه ووعدته بذالك في المستقبل والحمدلله الذي من عليه بالوفاء بالوعد وادعوا الله ان يوفقنا لقول الحق والكلمه الصادقه والنصحيه الاخويه فما انا الا اقل ثقافه وعلم امام كتاب وقراء صحيفه غران الذين استفدت الكثير والكثير منهم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *