الشيخ عاتق البلادي ـ رحمة الله ـ عليه ينقل لنا جانب من الحياة العلمية والاجتماعية في مكة المكرمة في بداية الستينيات الهجرية من القرن المنصرم، ويروي قصتة مع أم زياد.
يقول عاتق البلادي في مذكراته: (ذهب بنا محمد الوهيبي إلى الشيخ صالح الميرابي إمام المسجد ومدير المدرسة الليلية الخيرية الأولى في جرول، من مكة المكرمة، فعرض عليه إدخالنا المدرسة، فإذا الشيخ يندهش من طلبه فيقول: ياوهيبي لم يبق على نهاية السنة سوى شهر!
كانت الدراسة في مكة تعطل في رمضان وشوال والقعدة وذي الحجة، بصرف النظر عن تقلب الفصول، ولعل ذلك؛ لأن أهل الحجاز عامة – آنذاك – حياتهم المعيشية على ما يتعلق بالحج، حاضرتهم وباديتهم، قال الوهيبي: ( ياشيخ حنا ما نبيهم ينجحون، حنا نبيهم يستفيدون).
كنا في الفاتح من شعبان أو نحوه، فأومأ الشيخ إلى الأستاذ الشريف حمزة البركاتي، فأخذنا إلى حصوة فيها تلاميذ السنة الأولى، وكان من حسن حظنا أن الطلبة قد أنهوا المقرر، وبدؤوا في المراجعة، كنا نحفظ كل ما نسمع وخاصة القرآن الذي كان يبدأ من سورة الناس ـ بعد الفاتحة ـ ثم يمضي صعداً.
وانتهى شهر شعبان من عام 1365 هـ، لعله يوافق 1945 م، وبدأ الامتحان الذي يكرم المرء فيه أو يهان! وجاء الشيخ صالح الميرابي ليختبر السنة الأولى بنفسه، وطلب من كل طالب أن يكتب على السبورة، فقال لي: قم، أنت بدوي، اكتب (غنمي) فكتبت (غنم) ثم تنبهت سريعاً أن الكلمة ناقصة، فأضفت إليها الياء، فصارت (غنمي) فقال الشيخ: شاطر شاطر!
عدنا في مساء اليوم التالي، فرأينا التلاميذ مجتمعين أمام ورقة علقت على الباب، فلما رأوني قالوا: تعال تعال، يا عاتق أنت الأول! الأول! لم أستطع هضم هذه الحقيقة وبقيت وقتاً وأنا أظن أن في الأمر لبساً، ولم يكن يقيناً لي حتى باشرت السنة الثانية.
إن أخي رحمه الله مشغوفاً بحب أهله وأرضه، فما أن فارقنا المدرسة حتى قال: هيا نعود إلى ديرتنا، والدراسة؟ قال: نمضي العطلة هناك، ونعود للدراسة، هدأ روعي ولكن قلت له: أنا أريد أن أواصل دراستي في الحرم، فأخذ مني عهداً ألاّ أعيد عيد الفطر إلاّ معهم وأن يكون بقائي عند آل زياد.
وما أدراك ما آل زياد؟ إنهم نبذة من تأريخنا، وفلذة من مجتمع بلد الله الحرام، نبذة من تأريخنا لأن دعامتا البيت أتوا فارين من الطائف سنة 1343هـ /1924م، ولم يعرفا بعضهما إلا في أخصاص وضعت لإيواء أمثالهما! ثم تزوجا على يد أحد علماء مكة الأفاضل، وسكنا بيتاً حيث يلتقي حيا الشبيكة وحارة الباب، فأنجبا ابناً سمياه زياداً.
بكـّــرنا ذات يوم من مسكننا الذي وصفته سابقاً، وفجأة اعترضنا شاب يماثلنا سناً، فقال: تشتغلون ياعيال؟! قال أخي بكم؟ قال: السائر مقطوع، العامل العادي بريال، وغيره كلٌ له سعر! وافقنا، فأسرع بنا ذلك الشاب المحترف فسلمنا العمل عند المعلم النمر.
كان زياد شاباً تظهر عليه عناية أمه من تغذية ولباس، ولأنه ابنهما الوحيد أرادت أمه أن تجعل منه سروياً ! فكان ثوبه قصيراً مصبوغاً بالسدر، يحتزم بمصــدّع مصبوغ بقشر الرمان وعلى رأسه عمامة معصوبة عصباً سروياً، يتحرك بنشاط ويبتسم لكل إنسان.
قال زياد: أنا مالي إخوان، أنتم أخواني، أما أنا فراقتني الفكرة، ولكن أخي لم يرد، أذّن الظهر، أو أُذّن له فرمى كل عامل ما بيده، وأسرعنا نتوضـّـأ من البراميل، فإذا بزياد يقول: هيا الغداء عند أم زياد! فأبى أخي بإصرار، فقال: إذاً والله ما تتغدون إلاّ معي، أنا أجيب الغداء هنا، فانطلق كالريح وما هو إلاّ وقت قصير فإذا هو يعود بما كان يسمى سفرطاس، فيه أنواع من الطعام.
وعندما أخرج زياد الخبز من كيس معه هالني ذلك الخبز بكبر حجمه، قال زياد: هذا خبز بيتي من صنع الوالدة.
كان المكي يستحي أن يأكل في المطعم، فهذه المطاعم وضعت للأغراب وشذاذ الأفاق.
وكانت المكيات يغالين في فنون الطبخ وصنع الخبز، حتى إنك تشعر بسعادة وأنت على سفرة مكية، والمرأة المكية فوق هذه الخدمة هي ذات صون وعفاف، ومن قال غير هذا فعليه من الله ما يستحق.
صلينا المغرب والعشاء في المسجد الحرام مع زياد، فقال: أم زياد عازمتكم على العشاء، وحالفة يمين لازم تشوفكم، كان أخي قارب البلوغ وكان ينفر من مجالسة النساء، فتضايق، وقال: وأبوك يازياد؟ قال: موجود، قال أخي: على بركة الله.
في مجلس أبي زياد انسجم أخي وأبو زياد في الحديث وانشغلت أم زياد في إعداد الطعام، كنت سؤولاً إلى درجة الإملال، فقلت: أنتم من أي قبيلة؟! قال أبو زياد: أنا من الطائف – فدخلت أم زياد – فقال: وهذه من الشرائد؟ قالت أم زياد: لا ياحبيبي، الشرائد ماهي نسب، أنا من (متعان). وهو أيضاً من الشرائد.
انتهت السنة كما أسلفت وذهب أخي إلى ديرتنا، وذهبت أنا إلى بيت آل زياد، استقبلتني أمنا – أم زياد – مرحبة.
قالت أم زياد: أنا أملت في الله أنك ستأتي، ولذا حضّرت لكم بضاعة مريحة تنامون بعد الفجر وأنا أحضر السوبية وبعد العصر تبسطون عند مسجد المحجوب!
ما كنت أعرف ما السوبية، ولكن ثقتي في أمنا جعلتني أوافق، وكانت حصيلة بيعتنا تصل في اليوم إلى (12) ريالاً، وأصررت على أن تكون الأرباح مثالثة فيكون الثلث لأمنا.
كان ردّة الزيادي الهذلي معقـّــلاً لجمال قومنا، وكنت أوصيته أن يخبرني إذا جاءت منهم قافلة في آخر مضان، وهذه الليلة السابعة والعشرون من رمضان، جاء ردة ليقول: غداً عندي جمالة من جماعتك، إذاً هو موعد الوفاء بالوعد للأخ الحبيب، وسافرت مع الجمالة.
عـيـّـدنا في ديرتنا ثم عدنا إلى البلد المطهر، ولكن بدأ الشد والشد المضاد بيني وبين إخوتي، أنا أريد السكن قريباً من آل زياد، و إخوتي يوصون أخي بإبعادي عنهم: ( هذولي ما عندهم عيال ويهبون لهم ولد، وهذا ورع مهبول، قالت له هذه العجوز : أنا أمك وتعلق بها)، وأنا أرى كل هذا باطلاً.
وجاء الحل الوسط برأي أم زياد نفسها، أن نسكن في دحلة الموارعة، وهذا الولد ما هو حمل حجر وطين يتكسب في الحلقة ويتغدى في بيت آل زياد، ويدرس بعد العصر في المسجد الحرام، ويدرس بعد المغرب في المدرسة الليلية، ويبيت مع أخيه في دحلة الموارعة، ووافق الجميع على هذا المنهج الذي يدل على تدبير حكيم.
جرت هذه السنة الثانية لدراستنا على ذلك المنهج، وجاءت العطلة كما كل السنين وعدنا في نهايتها، وفي الطريق حـُـمّ أخي، فلم يعد يستطيع المشي، وكانت هناك شركة سيرت سيارات بين جدة ومهد الذهب، فركبنا في سيارة منها بريال الفرد الواحد إلى جدة، ومن هناك إلى مكة المكرمة، أسرعت بإدخال أخي إلى مستشفى جياد المنشأ حديثاً، ولا غيره في البلد، وفي اليوم الثاني توفي أخي في ذي القعدة عام 1369هـ.
أسرعت إلى بيت أمنا فاستقبلتني واجمة حزينة إلاّ أنها رحبت بحرارة، وقالت: أين عطية الله؟!
قلت: مات! قالت: يا الله! هم متواعدين!
قلت: من هم؟! قالت: أخوك زياد مات! الدائم الله، كل من عليها فان.
أذن للعصر فقمت وقامت معي وهي تقول: خلاص ياولدي، ما عاد لي غيرك، ولا لك غير هذا البيت، هذا بيتك. أومأت برأسي! قضيت ما قبل العشاء في حلقة عبد الظاهر أبي السمح – رحمه الله – كان زياد يوصيني بها، يقول: هؤلاء شوافع وأنتم شوافع، {على أني لم أكن أفرق بين عبد الظاهر وأخيه عبد المهيمن ، وصالح الفلسطيني الحنفي، وعلوي المالكي، فكل موارد العلم قراح}، وهكذا صرت فرداً من آل زياد.
يقول مهدي القرشي:
نقل البلادي في هذه الجزئية من مذكراتة كثير من صور الحياة الاجتماعية في مكة المكرمة في تلك الفترة حيث ذكر كثير من الصور الجمالية المليئة بالتفاصيل لو تتبعناها؛ لخرجنا بكثير من المعلومات والفوائد.
فنجده -رحمة الله- يتحدث عن نوعية بعض الملابس والمأكولات والمشروبات وحركة البيع والشراء وطبيعة الأعمال وقيمة الأجر عليها، كذلك يتحدث عن الناحية العلمية ويذكر أسماء بعض المساجد والمدارس (خاصة في حي جرول) وأسماء المشايخ والمعلمين ويتحدث عن طبيعة الدراسة ومقوماتها ونظامها وظروفها في تلك الفترة.
كما ذكر بعض اللمحات عن بعض عادات أهل مكة المكرمة في تلك الفترة وتحدث عن الحياة التجارية والأسواق ومهنة الجمالة (عند البادية).
إن المتمعن في سيرته- رحمه الله- يعرف كم عاني منذ طفولته من اليتم وتحمل مشاق السفر ولوعات الغربة والبعد عن الأهل والديار وكل ذلك في سبيل التحصيل العلمي، وقد تحمل مسؤولية كل ذلك وخاصة بعد وفاة رفيق دربة وأخية الأكبر (عطية الله) كل ذلك وهو لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره! ومع كل هذا العناء والشقاء؛ فقد تبين لنا من خلال مذكراته أن ذلك البدوي الصغير كان شغوفا بالعلم والتعلم ذكيا ألمعيا سوؤلا ملحاً عن كل ما لا يعرفة.
وقد ازددت انبهارا بشخصية عاتق البلادي وبعقليته الفكرية؛ وذلك عندما اطلعت على ماذكره في أخر ماقاله في أخر هذ الجزء من مذكراته؛ عندما أوصاه زياد أن يحضر مجالس العلم عند الشوافع: {على أني لم أكن أفرق بين عبد الظاهر وأخيه عبد المهيمن، وصالح الفلسطيني الحنفي، وعلوي المالكي، فكل موارد العلم قراح}.
فكل موارد العلم قراح، فهذا والله الفكر الناضج والعقل السليم إذ-لافرق عند البلادي بين العلم، وبين مذهب أو رأي ذلك الذي يحمل العلم، إذ الأولوية عنده -رحمه الله- طلب العلم والتزود به بعيدا عن التحزبات المذهبية أو السياسية أو القبلية وبعيدا عن من يخلقون أو يؤججون صراعات مذهبية أو قبلية أو شخصية ويتقاتلون من أجلها ويحشدون لهم الأتباع والمريدين؛ لذلك نجد البلادي بسب هذا الفكر المتزن قد كان في كتاباته وإنتاجه منصفا، عادلا لاتأخذه حمية أو عصبية أو مجاملة، وكان يكتب بحب وشغف لما يكتبه، وليس كما يفعل البعض اليوم من الذين يكتبون للتمجيد والتهليل لقبائلهم أو وماتهوى أنفسهم ورغباتهم الشخصية وطلب الوجاهة والتصدر.
مهدي بن نفاع بن مسلم القرشي
محافظة الكامل – قرية مهايع
مقالات سابقة للكاتب