بسم الله الرحمن الرحيم
عندما قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه محدثًا الأمة ومحذرها من الانغماس في النعيم والركون إلى حياة الدعة والسكون ودنيا زائلة (اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم) كأني به محدثًا الأمة منذ عهده، وهو خليفة المسلمين إلى يومنا هذا، بل إلى قيام الساعة، وكيف لا وهو المتتلمذ على يدي معلم البشرية ورسولهاﷺ وهو المتحدث الملهم الذي ضرب الله الحق على لسانه وقلبه، وكم من آيات الله جاءت مصدقة ومؤيدة لرؤيته الفذة الثاقبة.
نعم هو بما حباه الله من الحكمة وبما أنه قد حمل أمانة خلافة المسلمين وهو الناصح الأمين الذي يخشى على كل فرد من أفراد رعيته التي استرعاه الله إياها وحمله أمانة العدل بين أفرادها ومناصحتهم، وكأن كل فرد من أفراد هذه الأمة هو ابن وأخ وأب له، قام بهذه الأمانة خير قيام وكيف لا وهو الذي كما قيل عنه إنه كان يخشى الله وكأن النار لم تخلق إلا له وحده، إنهم بحق العارفون بالله.
يقول ـ رضي الله عنه ـ للأمة قاطبة (اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم)، فعلى المرء أن يلج إلى هذا الرخاء والنعم التي فتحها الله على الأمة، نعم يلج بحذر ويأخذ الكفاف بروية وتبصر وأن يخلط حياة التنعم ببعض الخشونة تحسبًا لتقلب الأيام وتداولها، فإنها سريعة التقلب والتحول وعلى المرء كذلك أن يكون كيسًا أريبًا فطنًا لكي لا تخدعة زهرة الحياة وزخرفها فينسى نفسه.
وللأسف فقد نسي الناس في عصرنا هذا عصر المتعة وتكدس الأموال؛ نسوا أنهم إنما جاؤوا إلى هذه الحياة كمسافرين أنهكهم التعب فوجدوا ظل شجرة فاستظلوا به وأخذوا قيلولة برهة من زمن لمواصلة المسير إلى غايتهم، والغاية هنا هي الدار الآخرة، ولا مفر منها، فليس من رجاحة العقل أن ينشغل الإنسان العاقل بالفانية عن الباقية.
وأنا هنا لا أطالب الناس ونفسي أن نزهد كل الزهد في نعم الله التي حبانا إياها، فهذا من إغراء القول، ولكن علينا أن نلج فيها بحكمة وروية وتبصر وأن لا تنسينا بهرجة الحياة وزخارفها ما خلقنا لأجلة، والكل يعلم لما خلقنا لأن الله قد عرفنا ذلك وليست لنا حجة بعد العلم فقد قال الله تعالى ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) إذًا فليس لأحدنا عذر بعد علم.
ولو علمنا أن الذي قال هذه العبارة هو أحد المبشرين بالجنة وهو من هو، فما بالنا نحن الذين تتأرجح حياتنا بين الخوف والرجاء، ولا يعلم أحدنا عن مصيره ومنقلبه، ونحن بين يدي خالقنا سبحانه ونرجوه المغفرة والعفو عن الزلات.
ويجب علينا ونحن أمة واحدة أن نتناصح ونتواصى كما أمرنا ربنا جل في علاه وأن يذكر كل منا أخاه في الإسلام حتى نكون كما أحب الله لنا؛ أمة واحدة تجمعها أخوّة ناصحة متكاتفة متعاضدة، وأن ننبذ الخلاف ويحب بعضنا بعضًا لكي نظفر بحب الله ورضاه عنا.
وها نحن وبمجرد أن شعرنا ببعض تقلبات الحياة وهي طبيعة الدنيا أصبح البعض منا يبيت على قلق ويصحو على وجل من تحول الحال، وأضحى حديث الناس اليوم عن قلة المعيشة والخشية من ضيق الرزق، وأخذ بعضنا يتهم بعضًا وكأن كل واحد منا جاء من كوكب آخر ولا يجمعنا كتاب ربنا، وأنسانا الشيطان أن الله قد تكفل وكفل لكل مخلوق رزقه، وأخشى ما أخشاه أننا قد تركنا للشيطان بابا يلج منه إلى قلوبنا وطريقًا معبدًا يسير به إلينا ليشككنا في رازقنا والمتولي أمرنا، كيف يكون ذلك وهناك حكمة تقول (لو ركب ابن آدم الريح فرارًا من رزقه؛ ركب الرزق البرق حتى يقع في فم ابن آدم ) فهل من الحصافة بعد ذلك أن ننسى من تكفل بنا منذ أن كنا نطفًا واجنة في بطون أمهاتنا وليس لنا حول ولا قوة إلى أن بلغنا ما بلغنا فإذ بنا نخاف من قلة الرزق وضيق ذات اليد، فعجبًا ثم عجبًا لحالنا ومآلنا.
نعم وقد صدق الفاروق عمر وجزاه الله عنا خيرًا من ناصح أمين حين قال لنا (اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم) فوالله لو استقبلنا من أمورنا ما استدبرنا لتيقنا أنها نصيحة جد غالية ولا تقدر بثمن أبدًا ولعملنا بها حتى لو كلفتنا سهر الليالي في التدبر والتبصر في فحواها.
نسأل الله أن يلهمنا رشدنا وأن يبصرنا بعيوبنا وأن ينور بصائرنا لرؤية الحق وتقبله والرضى بما كتب الله لنا وأن يرزقنا الإيمان الكامل واليقين الصادق وأن يردنا إليه مردًا جميلاً.
إبراهيم يحيى أبوليلى
مقالات سابقة للكاتب