نواصل الحديث حول هذا الموضوع من حيث توقفنا في الجزء الأول منه عند نقطة مرايا الخلايا العصبية وقلنا أن هذه المرايا العصبية قد تؤدي بالأطفال إلى الإستجابة للأفعال أكثر من الإستجابة للأقوال. إن عمل المرايا العصبية لا يقتصر على المؤثرات الإيجابية فقط ، وهي لا تحمينا من المؤثرات السلبية الضارة أو المدمرة للمشاعر أو من تقليد أو محاكاة السلوكيات الخاطئة والضارة بل إن مرايا الخلاية العصبية تجعل الأطفال قادرين على محاكاة وتقليد السلوكيات الضارة التي يشاهدونها أما في ألعاب الفيديوا أو في وسائل الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي وفي نفس الوقت يمكنها تمكين الأشخاص البالغين والشباب الذين لديهم بعض التمرد على ضوابط المجتمع على أن ينفذوا ما يشعرون به دون أدنى مشاعر للندم مما يجعل الصور العنيفة المخزنة في داخلهم ذات خطورة محتملة ومعرضة للخروج إلى السطح في أي وقت.
وإن ما يدعو للعجب ويزيد من عدم الرضا في النفس أكثر من أي شيء آخر هو أن بعض الأشخاص يقومون بتبادل تلك الصور عن طريق وسائل التواصل الإجتاعي ثم تنتشر بشكل واسع وتحدث تأثيراتها من غير أن يعلم متلقيها ومرسلها بذلك.
وفي كثير من الأحيان ربما تكون بعض الصور تم إلتقاطها من قبل مهنيين أو صحفيين محترفين لأغراض علمية أو قانونية، وربما بعضها التقطها منفذوا العنف أنفسهم إما تباهياً أو تخويفًا لنشر الإحباط والقسوة في آن واحد، فإننا لو تلقيناها فمن الواجب عدم نقلها أو تعميمها للأسباب المذكورة أعلاه والتي ستلي في المقال.
إن ما يجب علينا كمجتمع هو القيام بالتعاون والتكاتف بشكل أفضل للحد من التأثير الحساس والضار فيما يتعلق بعرض وتبادل الصور العنيفة، بما في ذلك الأخبار والأفلام الوثائقية عن الحروب أو الجرائم أوالبرامج التلفزيونية سواء المبنية على قصص حقيقية أو الخيالية وكذلك الأفلام المليئة بالعنف أوألعاب الفيديو، وما إليها.
وأيًا كان مصدر الصور والمشاهد سواءً كان العنف حقيقيًا أو أعيدت صياغته من حدث حقيقي أو تم إبتكاره من الخيال، فإن الإنسان عندما يشاهد القسوة يتعاطف مع الضحية، وبالتالي سيتفاعل مع المشهد أو الصورة وكأنه هو الشخص الذي تلقى العنف أو شاهد الصور، ولهذا فإن بعض الشهود أحيانًا في حالات العنف والقسوة يصلون إلى حالة أنهم يعتبرون أنفسهم كأنهم هم الضحية أيضًا، ويكون التأثر من المشهد أكثر تأثيرًا وقسوة عندما يكون المشاهد للقسوة عاجزًا عن القيام بأي شيء لمنعها أو تغيير نتائجها.
وفي بعض الأحيان فإن بعض الأشخاص الذين يشاهدون العنف لا يتعاطفون مع الضحية دائمًا ، وإنما في بعض الحالات يكونون في تعاطف تام مع المعتدي أو منفذ القسوة خاصة عندما يكون المعتدي بطلًا لفيلم ويظهر منتصرًا مع عدوانية مما قد يؤدي لاحقًا إلى قيامهم بنفس التصرف القاسي، والإنحياز مع المعتدي لا يؤدي دائما إلى إرتكاب العنف وإنما هناك صلة وثيقة بين العنف والسلوك العدواني وبين ما يشاهده الشخص لهذا النوع من مشاهد العنف. وقد يلاحظ أنه في بعض الأحيان بعد مشاهدة فيلم أو مشهد عنف لبطل الفيلم حيث يخرج فيه منتصرًا كيف يصبح لدى الشخص رغبة في أن يمارس نفس الطريقة التي شاهدها في الفيلم لينتصر لنفسه مهما كانت النتائج ولو أن الدوافع كان بالإمكان حلها بطريقة سلمية.
ولأن معظم ألعاب الفيديوا العامل المشترك بينها للإنتصار يكون إما بالعنف أو بالغش والخداع حيث يقوم اللاعب مثلًا بقتل الحارس ليسرق المفتاح حتى يستطيع فتح الصنوق لياخذ الجوهرة أو الكنز فيفوز في اللعبة، ونرى في ألعاب الفيديوا دائمًا أن الوسيلة الغالبة لحل أي مشكلة يكون بإستخدام العنف، ولهذا يتخزن ذلك في ذاكرة اللاعب فيتصرف بناء عليه لاحقًا لحل مشاكله. وحيث أن الأطفال والمراهقين ضعيفي الحصانة أو المناعة الفكرية فإنهم أكثر عرضة للتأثر من مشاهدة العنف سواءً عن طريق التلفاز في المنزل أو المجتمع المحلي أو من خلال وسائل الإعلام، ويكون التأثر مشوشًا غالبًا حيث ربما تشمل تلك الآثار إنخفاض الإحساس تجاه الآخرين، لكونهم أكثر خوفًا من مواجهة الناس وبالتالي يكونون أكثر قسوة في سلوكهم الذي قد يتسم بالعدوانية مع أقرانهم غالبًا أو عندما يكبروا ويكونوا قادرين على إستخدامها، وهذه الصفات التي يكتبسونها من ألعاب الفيديوا تؤثر على سلوكهم والذي قد يؤدي بالتالي إلى تأخر في التحصيل العلمي نظرًا لتدني مستوى التفكير المنطقي والتحكم في العواطف. وأما في حالة الأطفال فإن التأثر بتلك المناظر قد يمتد إلى فترة البلوغ وربما يؤدي إلى تحولهم إلى محبي للعنف عند الكبر.
وكما هو معروف فإن الأطفال والمراهقين معرضون بشكل خاص للتأثر لأن ليس لديهم الخبرات الحياتية الكافية ليدرؤ عن أنفسهم الأخطار الناجمة من مشاهدتهم لمشاهد العنف والقسوة وربما لا يستطيعون الحصول على المساعدة أو التوجيه الذي يحتاجونه في حينه من الأشخاص الذين هم أكبر منهم ولديهم خبرات أوسع وأكثر.
إن كافة المجتمعات في العالم تسعى للتخلص من الأمراض النفسية التي يعاني منها المجتمع وفي نفس الوقت يسعون للحفاظ على الصحة العقلية لأعضاءها، وكل شخص في المجتمع لديه الدور الذي من خلاله يستطيع أن يشارك به ليحمي مجتمعة من كل ما هو ضار أيًا كان مصدره ونوعه وتأثيره. فإن أفضل وسيلة لحماية الجسم والعقل من التسمم ، هي عدم شرب السم ، وحيث أن المشاهد التي تتسم بالعنف هي سم إما سريع السريان في العقل أو بطيء السريان فكلاهما في النهاية يصل إلى نتيجة ضارة وعندما يحل الضرر “لا قدر الله” فإنه إن لم يقتل فبالتأكيد سيحدث ضررًا محتملًا صغيراً كان أو كبيراً، فنسأل الله أن يبقينا في عالم مليء بالحب والتقدير والإحترام تكتنفه الرحمة والعطف والتعاضد.
نأتي الآن إلى الخطر الذي يحصل عند مشاهدة الصور التي بها أنواع من المخدرات أو العنف، فإن رؤية الصور تؤدي إلى إثارة الرغبة ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى قد نهانا عن النظر إلى المحرمات إذ قال تعالى في كتابه الكريم (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) “سورة النور آية 30 وجزء من آية 31، وقال سبحانه وتعالى أيضًا (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) الإسراء : (36). والله سبحانه وتعالى عندما أمرنا بغض البصر فهو لدرء الوقوع فيما بعد النظر حيث أن الإثارة تحصل من النظر وتتولد الرغبة فيما هو أكبر من النظر، ولهذا فإن درء المشكلة قبل وقوعها أفضل من علاجها بعد وقوعها، وحيث أن السمع والبصر والفؤاد مسؤولون يوم القيامه فمن الأولى أن نجنبهم الوقوع في الخطأ.
ونكمل الحديث في الجزء الثالث والأخير قريباً إن شاء الله.
عبدالعزيز مبروك الصحفي
مقالات سابقة للكاتب