قروي المنشأ.. مدني المعيشة

نفتخر أولاً بالمجتمع القروي الذي كان عليه وعايشه آباؤنا وأجدادنا وبعض المخضرمين منا، فلسنا متملصين منه بل هو أساسنا والقاعدة التي انطلقنا منها، ولكنها الحياة عاصرنا البعض منها وعاشها قبلنا الآباء والأجداد بكل تفاصيلها وتجاربها ومحطاتها وتحولاتها.

يقال عن المجتمع مدنيًا حينما تجد في المجتمع نفسه مقومات نقلته من القروية للمدنية، تأتي في مقدمتها نوعية المسكن (خيم، بيوت شعر، عشش، بيوت من طين ويسكن فيها أسرة كاملًا في الحر الشديد أو البرد القارس، والتحول إلى الشقق والفلل والعمائر التي قد يسكن كل شخص فيها بغرفة مهيأة تهيئة تامة).

وفيما يخص الملبس فقد عاش السابقون على حياة الكفاف لقلة ذات اليد، وقلة الحيلة والعمل الشاق في الشمس لمدد قد تتجاوز 12 ساعة باليوم (ثوب والثاني للعيد)، أما الآن فالملبس والهندام يظهر الشخص الذي أمامك بأحلى وأجمل منظر له.

وفما يخص ظروف العمل في السابق الذي كنا نمارسه ويمارسه قبلنا اﻵباء واﻷجداد لتوفير لقمة العيش الصعبة والشريفه بحكم نمط حياتهم القروية البحتة وهذا له مصاعبه، والآن الصورة أمامكم بدون إيضاح.

وفي صورة أخري للتحولات (الطعام)؛ كانت الأكلات التراثية ولا يتسع الحديث لذكرها، فالكل يعرفها بمسمياتها ويعشق أكلها حتى اﻵن، والمشرب (القربة والزير) والآن الأكلات السريعة والمياه المبردة وأجود أنواع العصائر بالثلاجة.

ثم من بعد ذلك يأتي التعليم بكل صوره القديمة التي من بينها صعوبة تلقي العلم حيث كنا نسير على الأقدام مسافات بالكيلومترات وصولاً للمدارس لتلقي العلم، وما توصلنا إليه اليوم من كون المدارس لا تبعد عن منازلنا سوى أمتار معدودة يجد الطالب كل الوسائل التعليميه الحديثة.

وتأتي من بعد ذلك سلوكيات المجتمع تصرفاته وتربيته ﻷبنائه في نمط معيشي محكوم (نهاره عمل وليله سكون)، وحاليًا فما نراه من سهر للأبناء واﻵباء واﻷمهات حتى الفجر لم نكن نراه من قبل في المجتمع القروي، وقد كنا في السابق نعتمد على الآباء والمعلمين فقط في التربية والتعليم والتوجيه، وحاليًا مصدر المعلومة المدرسة ومستر جوجل.

تحدثنا سابقًا عن المنزل القديم وما يحتويه من أثاث محدود، واليوم تحدث عن مقتنيات ثرية كمفروشات منازلنا وأثاثه وسياراتنا والجوالات التي بين أيدينا وأيدي أبنائنا وغيرها الكثير، كلها دلالات على أنك وسط مجتمع مدني فقط، هو مجتمع مدني صغير في عدد سكانه ولكنه كبير بما تشاهده عليه من نعم نحمد الله عليها، فقط ينقصنا أشياء ليست بالكثيرة لنكون من ضمن المجتمعات المدنية الكبيرة، وهنا أقول إن المقومات تأتي تباعًا مع الوقت والمطالبة بها والصبر عليها، ولكنها لا تسبق المسميات؛ بمعنى أن تأتي المقومات التي بدأت تلوح في الأفق بعد أن نطلق المسميات.

وسأتحدث هنا عن دليل قاطع شاهدته وشاهده الكثير من جيلي: جده عام 1352 هجرية، أي قبل 87 عامًا حينما وحد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود المملكة، لم يكن بها سوى أحياء قليلة وبيوت مبنية من الحجر المنقبي، وسقوف خشبية، ويزودون بيوتهم بالمياه بواسطة “التنك” يحملونها على ظهورهم أو على ظهور الحمير أعزكم الله، ولا كهرباء ولا اتصالات ولا سفلتة ولا أرصفة ولا كثرة بالمحال التجارية سوى كم محل بباب مكة، ولا توفر بكل الخدمات الحكومية، ومع كل هذا أطلق عليها مدينة جدة وهي بدون مقومات، ثم أتتها المقومات تباعًا حتى أصبحت تضاهي أكبر مدن العالم.

وهذا مثل حي يرشدنا ويدلنا على أن ننظر للثريا دون الثرى، ونطالب بكل شئ يكفله لنا النظام لتكون غران وغيرها من مدن المحافظة من أجمل مدن المملكة.

همسة: الناس قد يكونون أسرى لعادات أو لقناعات وهمية تقيدهم، وما عليهم إلا أن يكتشفوا الحبل الخفي الذي يلتف حول (عقولهم) ويمنعهم من التقدم للأمام، وأي أمة يتوارث أجيالها الحديث عن الضعف والتخلف والخوف والفقر ستبقى أمة متأخرة حتى تفك حبلها الوهمي، ووقتها فقط تستطيع أن تنهض وتمضي من جديد!

محمد عطالله الصحفي

مقالات سابقة للكاتب

7 تعليق على “قروي المنشأ.. مدني المعيشة

أ. نويفعة الصحفي

( الناس قد يكونون أسرى لعادات أو لقناعات وهمية تقيدهم، وما عليهم إلا أن يكتشفوا الحبل الخفي الذي يلتف حول (عقولهم) ويمنعهم من التقدم للأمام، وأي أمة يتوارث أجيالها الحديث عن الضعف والتخلف والخوف والفقر ستبقى أمة متأخرة حتى تفك حبلها الوهمي، ووقتها فقط تستطيع أن تنهض وتمضي من جديد! )
لله درك أ. محمد …لقد وضعت النقاط على الحروف .. وما من ذي لب يقرأ إلا وتستوقفه هذه الكلمات .. ليرى انها الواقع الذي تعيشه بعض العقول ..
مقال تميز بسلاسة عجيبة ، قراته ووجدت نفسي وكأني اتنقل بين شرفات الماضي ، الذي يتحدث عنه الأباء والحاضر ، الذي نعيشه ، وما توفرت فيه من مقومات الحضارة ، فاصبحنا نعيش بين افتخار بماضينا العريق ، وعزة بحاضرنا الجميل ..
فهتيئا لنا بنعم الله علينا ..هنيئا لنا بهذه النقلة الحضارية ومقوماتها ..
سلم لنا الفكر وطاب لنا المداد استاذ محمد ..
شكرا صحيفتنا الرائدة في كل مجال من مجالات الابداع

فايز بن نشى

مبدع حبيبي أبو ملاك ، سلمت أناملك الذهبية.

إبراهيم مهنأ

شكرا م/ محمد فقد عرفتك بالهدوء والحكمة ، ومن يقرأ هذه الكلمات التى سطرتها يرى ذلك جليا .
داعبت المشاعر ، وربطت الحاظر بالماضي ، وذكرت بأن الموروث من التقاليد والعادات ينبغي أن يكون نقطة إنطلاق لا وقوف على الأطلال ، ليصبح كل جزء من الماضي يشبه الفرضية لتصاغ منه نظرية تتحول لحقيقة عصرية ربما تتحول لفرضية جديدة لنتطور أكثر . فالتغير صفة الاحياء من فارقها عاش مع الأموات.
فمن تأمل الحال وتخيله وهو يقرأ المقال فنظر إلى كثير من القرى بمحافظتنا الجميلة لرأى نقلة كبيرة بين الأمس واليوم جعلت مسمى مدينة هو الأنسب لها .
فشكرا أبا ملاك شكرا

محمد صامل الصبحي

قِرَاءَةٌ إِجْتِمَاعِيَّةٌ جَمِيلَةٌ ٌ مُ/مُحَمَّدٍ. وَمُقَارَنَةٌ لَطِيفَةٌ بَيْنَ سِمَاتِ الحَيَاةِ فِي القَرْيَةِ, ِوسماتِ الحَيَاةُ فِي المَدِينَةِ, سَرَدْتَ فِيهَا عَدَدًا مِنْ الشواهدِ الوَاقِعِيَّةِ, وَأَشَّرْتَ إِلَى مَا يُوَاكِبُهَا مِنْ تَغَيُّرٍ فِي القِيَمِ وَالأَخْلَاقِ المُجْتَمَعِيَّةِ, وَتَغْيِيرٍ فِي القِنَاعَاتِ الفَرْدِيَّةِ وَالمُجْتَمَعِيَّةِ. قِرَاءَةٌ مَنْطِقِيَّةٌ جِدًّا, وَأُسْلُوبٌ بَسِيطٌ وَسَهْلُ الفَهْمِ وَالاِسْتِيعَابِ, مُوَفَّقٌ دَوْمًا أَخِي مُحَمَّدٌ,

عبداله بن علي الطياري

مقال أرتكز على ظاهرة التحولات المجتمعية فى المجتمع القروي وهي قراءة رائعة لكاتب واضح ارتكازه الثقافي علي أرث عميق فى دارسة الظواهر المحتمعية ،وبما أنه فتح الباب بهذا المقال الجميل عن المجتمع القروي ،أري أن خليص لازالت الكثير من أطرافها تعيش الحياة القروية الى الأن مع شي من التمدن ، وأن كان التمدن اصبح هو الظاهر بخليص المدينة والانسان والمحافظة فى أطارها المعروف تاريخيا بخليص ، لذا اطلب من الاستاذ محمد عطالله الصحفي العمل على قراءة هذه التحولات داخل محتمع خليص خلال نصف القرن الماضي ، وماهي التاثيرات التي تركه موقعها الجغرافي مابين جدة ومكة ووقعها علي طريق الحج الشامي ، اعتقد ان المجتمع الخليصي سيكون مذهل بالبحث فيه حول دارسة هذه التحولات وأتمني أن تكون أنت أول من يشرع لها أدوات البحث ليكشف مسيرة حافلة لأنسان خليص مع تحولات الحياة وكيف استطاع أن يعيش ويتقألم معها وبل يساهم فى تمدن المجتمع سواء الخليصي او مساهمته فى بناء التمدن داخل المجتمع الجداوي عندما كان أنسان خليص يتكبدا المشقة لصناعة بيوت الطين فى الهنداوية او البغدادية وغيرها والقصص كثيرة،

سمو الذات عواطف .

تحيه للكاتب والحياة بمختلف مراحلها جميله لكن الانسان يسعى إلى مواكبة التطور وخليص ولله الحمد تتجه إلى عجلة تنميه سريعه ،وما بين التكامل والاختيار،تم اتخاذ القرار،خطوات تسبق الاحلام ،وهناك نخبه مميزه تعمل على تطويرها وهناك فرق كبير مابين الامس واليوم.
هناك بشرى تزف ،وهناك رؤيا واضحه ،خليص وغران تتجهان إلى الصعود وخليص نجمه كبيره بالنخبه المثقفه التي تدعم تطورها

وبما انك كتبت عن محافظة جده فقد عشت بها زمن لاينسى ،المقال اعاد الذكريات ..لكن لما انتقلت للعيش في خليص وجدتها أجمل واشعر ان هالسنه سنة التحولات الجذريه ان شاء الله .ولمجتمع خليص تميزه وهيبته، خليص لها وقار واحترام خاص سبحان الله. …وان شاء الله نشاهد تحقق الأمنيات في خليص أو غران والقرى التابعه لها ..

م. محمد عطالله الصحفي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سعدت كثيرا بمداخلاتكم وتعليقاتكم الاخوه والاخوات
الاستاذه نويفعه
المهندس فايز
الاستاذ ابراهيم بن مهنا
الاستاذ محمد بن صامل
الاستاذ عبدالله الطياري
الاستاذه سمو الذات
وهي نبراسا لي
ووساما اتوشحه
فأسلوب طرحكم يجعلني ارفع العقال تقديرا واجلالا
وساعمل على طلبكم استاذ عبدالله قدر المستطاع فانتم واجهة خليص الاعلاميه ومنكم نستفيد .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *