صناعة الإنسان في ماليزيا

كنت في زيارة تعليمية إلى دولة ماليزيا، دولة الحضارة والجمال، دولة التعليم المتميز الذكي، وكنت في هذه الزيارة في صحبة عدد من المهتمين بالتعليم الأهلي والساعين لتطويره وتقدمه.
تجولنا خلال هذه الجولة التعليمية على عدد من المدارس الذكية (smrat school) والجامعات المميزة، ورأينا النقلة الكبرى للتعليم في هذه البلاد التي لا يزال في جعبتها كثير وكثير مما أوضحوه لنا في خططهم المستقبلية، ولا يملك الإنسان إلا أن يقف معجباً منبهراً بما رأى وما سمع خاصة مع قلة إمكاناتهم الاقتصادية مقارنة بغيرهم من الدول الأخرى التي تملك أضعاف أضعاف ما تملكه ماليزيا، وهنا توقفت وقلت كيف استطاعت ماليزيا أن تبني هذه الحضارة مع قلة إمكاناتها ومواردها الطبيعية؟ فوجدت أن الإجابة تكمن في مورد غفلنا عنه وتناسيناه ألا وهو صناعة الإنسان والعقول.
فالإنسان هو الذي يصنع الحضارة وليست الحضارة هي التي تصنع الإنسان، لقد توجهت ماليزيا قبل أن تبني تلك المباني الشاهقة، والنظام التعليمي القوي، والصناعات الإلكترونية، إلى صناعة الإنسان، الإنسان المبدع، الإنسان المخلص، الإنسان الذي يعرف ماذا يريد ومن ثم سيصل بسهولة إلى ما يريد، وبعد صناعة الإنسان من السهل أن تبني الحضارة التي سوف يحافظ عليها الإنسان ويسعى إلى تطويرها.
إن الحضارة المادية وحدها لا تكفي فمصيرها إلى الفناء والانتهاء، ولكن بناء الإنسان هو الذي يبقى ويدوم ويستطيع مواجهة الصعاب والتحديات، أين الحضارات السابقة؟! حضارة عاد وثمود، وإرم ذات العماد التي لم يُخلق مثلها في البلاد، لقد ذهبت واندثرت ولم يبقَ منها إلا المعالم والأطلال، أما الحضارة التي بناها الرسول عليه الصلاة والسلام فهي حضارة باقية انتشرت في كل بقعة من بقاع الأرض ولا تزال تنتشر وستسيطر على الأرض كلها وستبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لأنها حضارة بنت الإنسان وصنعته، لقد ربى عليه الصلاة والسلام نماذج فذة من الرجال الأبطال من أمثال أبي بكر الخليفة، معاذ العالم، وخالد بن الوليد القائد العسكري، ورجال آخرين كل منهم يستطيع أن يقود أمة وحده، فاندثرت الحضارات السابقة ولم تبقَ إلا الحضارة الإسلامية.
– لقد تعلمت من ماليزيا أن الإنسان يمكنه أن يصنع كثيراً، وليس هناك شيء مستحيل مع العزيمة والإصرار.
– تعلمت أن الجهد الفردي يبقى فردياً والجهد الجماعي يصل إلى الهدف بأفضل الصور وأقل التكاليف، فعلى سبيل المثال/ التعليم الإلكتروني الذي يقدم الآن في ماليزيا يقدم اليوم لدينا في بعض مدارسنا الأهلية ولكنه جهد فردي وسيبقى ضئيلاً، أما الذي حدث في ماليزيا فإن كبرى شركات الاتصال والتقنية في البلاد سبع شركات محلية وثلاث شركات خارجية بمساندة الدولة شاركت جميعاً في وضع نظام التعليم الذكي، ومن ثم ظهر بهذه الصورة المشرقة الفاعلة.
– تعلمت من ماليزيا أن الرؤية العامة للتعليم لابد أن تترابط بشكل متين ومتفاعل مع الرؤية العامة للدولة، فلا يؤتي التعليم ثمرته إذا لم يكن المعلم في المدرسة، والطالب على مقعد الدراسة، وولي الأمر في المنزل، يعملون جميعاً لتلك الرؤية والأهداف العامة للدولة، فيشعر كل واحد منهم أنه يضع لبنة في بناء قد عرف شكله وهيئته، نعم نحن لدينا أهداف وقيم للتعليم، بل هي أهداف متميزة ولكنها كُتبت ولم يتم تفعيلها والاستفادة منها، وتحتاج إلى المراجعة لتتناسب مع تحديات العصر الحالي والعولمة وشيوع المعرفة.
– تعلمت من ماليزيا أن الحياة اليوم سباق، لا ينتظر فيه المتقدم المتأخر، وليس لنا خيار إلا الدخول في ذلك السباق، وإلا سنجد أن المسافة شاسعة بيننا وبين غيرنا.
لنبدأ من الآن الإصلاح في التعليم، نبدأ من المعلم ونُعده إعداداً جيداً يتوافق مع متطلبات العصر والمرحلة، ومن أراد أن يقاوم هذا التغيير والانطلاق فلابد أن نتجاوزه ونجعل رحلة القطار تستمر.
لماذا يدخل في مهنة التعليم كل من تخرج في الجامعة بغض النظر عن إمكاناته وقدراته؟! إنه ينبغي أن يُختار لهذه المهنة أميز الطلاب المتخرجين وأقدرهم على تربية الجيل، وإلا فماذا تنتظر من جيل يعلمه معلمون ضعفاء إلا أن يكون ضعيفاً مثله؟!
لماذا في مهنة الطب لا يلتحق بها إلا من أثبت جدارته وتميزه ولا يُكتفى بشهادته الجامعية بل يُلزم بمواصلة دراساته والحصول على شهادات متقدمة في مجاله، وإلا فإنه سيكون ثابتاً في مكانه لا يترقى وربما فُصل من الخدمة، أليست مهنة التعليم مثل مهنة الطب الإهمال أو التهاون فيها يؤدي إلى أخطاء يكون ضحيتها البشر؟
ثم نتجه إلى المناهج العلمية ونغذيها بما هو جديد ومتقدم، وخاصة أن التغير في هذا المجال أصبح سريعاً، ونُضمِّنها طرائق التفكير ونبتعد عن الأسلوب التلقيني البحت، فالمعلومة الآن أصبحت ميسَّرة بضغطة زر لمن أراد أن يبحث عنها، ولكن هل يستطيع الطالب أن يستفيد من تلك المعلومة ويوظفها في حياته العملية، وهذا هو المحك الحقيقي للتعليم.
نحن في هذه البلاد المباركة نملك كل مقومات النجاح والتميز، بلاد حفظها الله بوجود الحرمين الشريفين فيها، يتمنى كل شخص في العالم أن يأتي إليها، وتهفو إليها نفسه، وحدة اجتماعية، وترابط بين القيادة والشعب، ثروة عظيمة حبا الله هذه البلاد بها، رجال مخلصون يريدون التغيير والنهوض بالتعليم والارتقاء به، والذي ينقصنا هو أن توحَّد الأهداف والغايات لاتجاه واحد، وأن ندخل السباق والتحدي مع أنفسنا قبل أن ندخله مع الغير، وأن تكون جهودنا جماعية لا فردية حتى نرى نجاحاً متميزاً قريباً إن شاء الله.

 

مالك غازي طالب – رئيس لجنة المدارس الأهلية في الغرفة التجارية الصناعية بجدة

 

مقالات سابقة للكاتب

3 تعليق على “صناعة الإنسان في ماليزيا

مصهلل

مقال جميل جدا نشكرك عليه د.مالك
فعلا لا يزال التعليم وطريقته على ماهي عليه من عشرات السنين .
لا تطوير ولاهم يحزنون
اعتقد هناك الكثير من العمل نحن بحاجه له ليس في التعليم فقط من اجل ان نصل الى ماوصلت اليه ماليزيا
ولكن صناعة المسئول هي اكبر عائق …

ايجابي

شكرا د مالك
وضعت النقاط على الحروف ! فمتى يعتلي عرش التعليم رجل يترجم مقالك الى واقع . وجهة نظري يسلم التعليم لشركة متخصصة تحاسب وتتابع .

سمــآ.

مقال ممتاز لك كل الشكر و التقدير عليه يا دكتور مالك .
بالفعل يجب أن ننمي عقولنا بما ينفعها في مجال التعليم و لا نضيع الوقت في أمور لا اهمية لها .
و قد نجد من بيننا اولئك الذين لا يضيعون ساعة من وقتهم إلا و استفادوا منه و تعلموا اشياء جديدة تساعدهم في تقدم مستوياتهم التعليمية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *