في زمن الانحطاط الفكري وفساد الذوق والفن الهابط والتهريج الإعلامي والهراء المقنن والجدل حول لون الماء وطعم الهواء، زمن أصبح الفساد فيه شطارة وفهلوة وذكاء، وتبني الأمانة والعمل بمضمونها أصبح تنبلة وغفلة وغباء.
تتقاذفك الأهواء بين التمسك بمبادئك التي أقسمت عليها في زمن كانت المبادئ هي رأس مال الكاتب والتاجر والمعلم والموظف وكل صاحب حرفة ومهنة؛ وبين التخلي عن القيم والسباحة مع التيار، وفي أي اتجاه التفت وجدت أنك عبارة عن مضيعة للوقت ورقمًا لا يقبل القسمة على شيء؛ فحينما تقرر أن تحمل مبادئك وتتوسل في طرقات المدينة وتحاول بكل مهارة التاجر أن يشتري السابلة بعضًا من بضاعتك المزجاة؛ فإنهم سوف يسخرون منك ومما تحمل فلا تجد بدًا من أن تبخسها الثمن علك تجد من يشتريها، والناس تشيح بوجهها عنك وعن بضاعة كانت بالأمس الدابر غالية الثمن، واليوم البعض إن لم يكن الكل يرغب في بضاعة لا تسمن ولا تغني من جوع في عرف أبناء اليوم.
فعندما ينهكك التعب وينال منك النصب والخشية أن تبور بضاعتك – مبادؤك،قيمك، أخلاقك – تتخذ زاوية قصية في السوق لا تريد أن يشاهد أحدًا انكسارك، تفكر في عرضها بالمجان خشية أن تفسد، حتى هذه المبادرة أشاح الناس عنها وجوههم وعافوها وكأنها مساوئ، وهي لعمري محاسن وفضائل وكل شيء جميل في عالمنا.
إن هذه الصفات لم تتغير، فهي ثابتة كالجبال خالدة كالنجوم، ولكن توجهات الناس هي التي تزحزحت وانقلبت على عقبيها، وأنا أتساءل مادام كل شيء يباع ويشترى في حاضرنا حتى الضمائر والأحاسيس فلماذا عاف الناس بضاعتي التي عرضتها عليهم إلى درجة المجان؟ لماذا لا يجربون اقتناءها ولو لمرة علهم يجدون فيها بعض المنافع؟
والجواب جد بسيط وسهل: لأنهم إن اقتنوا تلك البضاعة تحولت أخلاقهم وصُقِلت فانقلبوا من المادية البحتة إلى الروحانية العالية، وهذا هو ما يخشاه دعاة الرذيلة لا يريدون من الناس أن يتحولوا من فوضويين إلى النقيض تمامًا فيؤثروا النظام على الفوضى فيفشل مخططهم ويفقدوا حينئذ امتيازاتهم ومكانتهم التي اعتادوها.
فضائل كثيرة أصبحت تُرَى وكأنها رذائل؛ الإخلاص، الأخلاق، القيم، المبادئ، الجود، العطاء بدون مَنٍّ أو أذى أو رياء بل ابتغاء رضوان الله والمثوبة منه، فهل يعقل أن تنقلب أمة قائدها محمد صلى الله عليه وسلم، وهو نبيها رسول الله و سيد الأخلاق وزعيم المصلحيين؟!
وكما قال أحمد شوقي:
المصلحون أصـابع جمعت يد
هي أنت بل اأت اليد البيضاء
لا بدّ أن هناك خطأ ما قد حدث في غفلة من الناس الذين كانوا يضرب المثل بهم في مبادئهم وقيمهم، فهل تقادم الزمن يؤثر في أخلاق الناس؟ وهل القيم تسقط بالتقادم؟ لماذا أصبحت الحيرة سيدة معظم مواقفنا؟ تائهون في زحمة اغتيال المثل، حائرون في اتخاذ قراراتنا، نستشير ذوي الآراء فإذا هم مثلنا حائرون، إلى الله المشتكى والمفزع.
لكن برغم كل هذا فهناك دائما ضوء في آخر النفق المظلم يستنير به من ينشدون الخلاص والنجاة، والذين مهما ضاق بهم الحال متفائلون يحاولون صقل الهمم لديهم لتخطي الصعاب، هم من نتشبّث بهم علّنا نصل معًا في سفينتهم إلى بر الأمان، وحتمًا هناك دائمًا بر للأمان، لا محالة.
إبراهيم يحيى أبو ليلى
مقالات سابقة للكاتب