يعتبر الوعي مسقط رأس جميع الاحتمالات، فكل ما تريد القيام به، وكل ما كنت تريد أن يكون -بعد مشيئة الله تعالى-يبدأ من هنا.
وحتى تكون ذا رؤية ناجحة، ينبغي عليك أن تكون على درجةٍ من الوعي قدر الإمكان، ففي كل لحظةٍ هناك العديد من الطرق التي تدفعك من أجل المضي قُدماً،ولكن الوعي هو من يخبرك أي من الطرق هي الصحيحة كي تتبعها.
ففي حواراتنا اليومية على سبيل المثال التي تتناول أمراً ما،من الطبيعي أنْ يظهر على سطح تلك الحوارات تبايناً في الأراء.
وهذا التباين قد يفرز ندوباً في جمال النفوس مع أنّ الحقائق موجودة دون ريب.
فإذا ما قلت: “الضوء ينتقل أسرع من الصوت”، وقال أحدهم عكس ذلك؛ فستكون أنت المحق بكل تأكيد، وسيكون هو المخطئ.والملاحظة البسيطة للبرق وهو يسبق الرعد يمكنها تأكيد ذلك.
فإذن أنت لست محقاً فحسب، لكنك تعرف يقيناً أنك محق.
والآن دعونا نتأمل نتائج هذا الحوار البسيط، ولنلاحظ فداحة النتائج كما عهدنا مجالسنا.
هل ثمة أي دور للأنا هنا ؟ ربما،لكن ليس بالضرورة.
إذا ما كنت تصرح ببساطة بما تعرف يقيناً أنه صحيح، فلا علاقة للأنا بذلك البتة؛ لأنه ليس هناك أي تماه.
فالتماهي هنا مع ماذا ؟ مع العقل والوضع الذهني.
بَيد أنّ مثل هذا التماهي يمكنه أن يجد طريقاً للتسلل،فإذا وجدت نفسك تقول: “صدقني”، “إنني أعرف”، “لماذا لا تصدق أبداً ؟”؛ فعندئذ تكون “الأنا” قد تسللت بالفعل. فهي تختبئ في الكلمة الصغيرة “إنني”.
إن التصريح البسيط : ” الضوء أسرع من الصوت”، ورغم أنه صحيح ، فقد أصبح في خدمة الوهم ، في خدمة “الأنا” ، أصبح ملوثاً بإحساس زائف بـ “الأنا”؛ أصبح مشخصناً، وتحول إلى وضعية ذهنية؛فــ”الأنا” بالتلاشي أو بالإهانة؛ لأن أحداً ما لا يصدق ما قد قلت.
تأخذ ” الأنا ” كل شيء على محمل شخصي؛ فتنشأ المشاعر، والحس الدفاعي، وربما حتى العدوانية.
هل تدافع هنا عن الحقيقة؟
لا، فالحقيقة لا تحتاج في أي حال من الأحوال إلى دفاع. الضوء أو الصوت لا يهمها رأيك أنت، أو رأي سواك.
بل أنك تدافع عن نفسك، أو عن الوهم الذي لديك حول نفسك.
إنه التعويض الذي اصطنعه العقل، وبتعبير أدق صار الوهم يدافع عن نفسه.
وإذا ما كان مجال الحقائق البسيطة والمباشرة يمكن أن يذعن للتشويه والوهم الأنويين، فماذا إذن عن مجال الآراء ووجهات النظر والأحكام، وجميعها أشكال عقلية يمكن ببساطة غرس الإحساس بــ “الأنا” فيها.
لا شك أنّ الأنا ستأخذ حيزاً واسعاً ومساحة أكبر.
هذا ما يجري بين الأفراد، نجده وبشكل أكبر يحدث على المستوى الجمعي،فعلى المستوى الجمعي،فإن المنظومة الذهنية “نحن مصيبون وهم مخطئون”.
هي ثقافة متجذرة عميقاً في تلك الأجزاء من العالم، حيث النزاع بين أمتين، أو عرقين، أو قبيلتين، أو ديانتين، أو أيديولوجيتين، طويل الأمد، وجذري، ومزمن.
فكل من طرفي النزاع يتماهى مع منظوره الخاص، مع “قصته” الخاصة، وكل منهما عاجز بالتساوي عن رؤية أنه قد تكون هنالك قصة أخرى، وأن تلك القصة قد تكون صحيحة أيضاً.
وللتخلص من هذا الشَّرَك؛ علينا أن نعي أنّ كل” أنا” تخلط بين الآراء ووجهات النظر وبين الحقائق، بل أكثر من ذلك،فهي لا يمكنها أن تميز الفرق بين حدثٍ ما وتفاعلها مع هذا الحدث.
فكل “أنا” هي كناية عن مَعْلمٍ في التصور الذهني والتفسير المشوه.
فمن خلال الوعي – لا من خلال الفكر – يمكنك التمييز بين الحقيقة والرأي .
وعبر الوعي تكون قادراً -بعون الله وتوفيقه- على أن ترى: هنا الوضع المعين، وهنالك الغضب الذي أشعر به تجاهه؛ وعندئذ ستدرك أن هناك طرقاً أخرى لرؤية هذا الوضع والتعامل معه.
فعبر الوعي يمكنك رؤية الوضع أو الشخص بشموليته بدلاً من أن تتبنى منظوراً واحداً محدوداً.
فما يحدث من تفاخر ومباهاة في المجتمعات عادة،والتي تُعد الشيلات والإسراف الكبير في المناسبات إحدى أهم تمظهراتها.
يأتي الوعي الإنساني ليشير بحكمة وبصيرة إلى دعوة ديننا الإسلامي الحنيف إلى التواضع وعدم الإسراف؛ وذلك ليقدم طريقةً ربانيةً للبشرية جمعاء لهدايتهم،ولإفشال إحدى أهم البُنى الأنوية الأساسية في العقل البشري.
سليمان مسلم البلادي
مستشار الوعي الإنساني
solimanalbiladi@
الحلقات السابقة من روشتة وعي