في أحد الأيام بعد مضي قرابة عشر سنوات من خدمتي في التعليم دخلت غرفة استراحة المعلمين وكان بها ثلاثة ، يتناقش اثنان منهم في التقاعد ، والثالث منصت يجلس جانبا عنهما ، وسمعتهما يقولان نحن نكمل أربعين سنة خدمة مع إكمال ستين عمرا ! سألتهما كيف كان ذلك لكما ؟ قالا : تم ترتيب هذين الموعدين مبكرا يوم استخرجنا التابعية (بطاقة الأحوال الشخصية حاليا) – فسّرتها لأن كثيرا من الشباب لا يعرفون هذا الاسم – ورددت عليهما مداعبا : والموعد الثالث ؟
– ماذا تقصد ؟
– ابتسمت وقلت المغادرة ! الأجل !
ضحكا مشمئزين من سؤالي هذا ، والتفت للزميل الثالث ، فخاطبني كأنما أحس أنني أوجه شبه السؤال إليه وقال : أما أنا سأتقاعد مبكرا ، فلا يبقى لي سوى ثماني عشرة سنة على إكمال المدة المطلوبة له ! ( لم يزل حينها في السنة الثانية من الخدمة ) ، وتمر السنون وقد انتقل عملي للإشراف التربوي ، وأضحى التنائي بديلا عن تلاقينا ، كل في زحمة آماله والتمتع بأمانيه ، وأدخل صالة مناسبة مجيبا دعوة أصحابها ، وإذا وجهي بوجه ذاك الزميل الذي أحبطه يومها الحديث عن الأربعين والستين ، ورأى أن أقرب مفر له بعد ثماني عشرة سنة ليتقاعد مبكرا ، فذكرت الموقف وابتسمت وضحك هو قبل أن أصافحه ، وتعانقنا ، وهمس في أذني يقول ( أعرف ليش ضحكت ، تراني أكملت العشرين وتقاعدت !)؛ فكان من أسباب تقاعده المبكر ذاك الحديث العابر الذي لم يخطر في بال عنصريه ما أحدثه من غيمة معتمة حجبت ضوء الأمل وإشراقة الطموح في نفس معلم لتوه درج بخطا الشباب الباسمة في دروب الحياة المتفرقة والمتنوعة سهلا وجبلا ، وصعودا ونزولا ، واستقامة وتعرجا … رحمهما الله وغفر لهما ، كانا فاضلين ونموذجين يذكر بذلهما ، تقاعد أحدهما ولم يكمل أربعين سنة خدمة ، فمهنة التعليم شاقة ، وكلما زادت سنواتها كأنما تضاعف يومها بيومين ، وتوفي – رحمه الله – قبل أن يبلغ الستين .، وكذلك الآخر نحوا من ذلك .
أما أنا فقد جرت بي رحلة الأيام راكبا سفينة الحياة المزدحمة ، التي لاتتوقف ، تمخر عباب الزمن ، والناس من حولي بين غاد ورائح ، هذا صاعد جديد وهذا حط به المسير ، ويا الله ! ما أكثرهم ما أكثرهم ، وأنا نظري أمام أمام ، فكم تخرج بنا آمالنا عن ذلك الخط الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثل به حال الإنسان والأجل .
وبعد أن تجاوزت الثلاثين عاما من سني العمل ، ضحى يوم أثناء الدوام ، وقد لازمتني الفكرة من قبل أياما ، تبلور لدي القرار ، فوضعت قلمي ، وملت مستندا على ظهر مقعد مكتبي ، ورميت بنظري أمامي عاليا ، ولولا جدار الغرفة لقطع الآفاق ، ارتسمت له فضاءات الخيال ، ومر أمام ناظري لحظتها سريعا جدا جدا شريط أوله لحظة استلامي خطاب التوجيه معلما ، وآخره لحظتي التي أعيشها ، وأحداث تتابعت زمرا بشكل عجيب وتزاحمت وجالت كأنما عاصف عصفها ، وكأوراقٍ الموظف أرشفها ، وتمتمت بكلام نظما قلته وأنا في خلوة جهرا :
تجري بنا الأيام مسرعة
وكنا نظنها إقبالا في أمانينا
أوشكت عندالرحال تحطنا
وقد حطت قبل الملايينا
وقبل ثلاثة أيام ترسل لي صحيفة غران ، تحت عنوان (يوميات متقاعد ) وأتبعته بشرح المراد منه وما يأملون أن يكون تحته من تجارب ومواقف !
واحترت ماذا أكتب وبأي برنامج أضغط أكثر من ثلاثين كتابا في صحفة أوصفحتين ؟
لكنني إجابة لطلبهم ، أدون لكم أيها الأفاضل الكرام أسطرا لعلي أستطيع بها مشابهة الخلاصة التي كان معلمونا – جزاهم الله عنا خير الجزاء – في مادة القواعد يحفظوننا إياها :
• السطر الأول : إنه يوم التقاعد ستستعيد أسطر أيام عملك ، كأنما قصة صغيرة تقرأها ، أنت كتبتها ، فإن كان الخط جميلا والكتابة مرتبة ، وعلامات الترقيم واضحة ، سعدت بها ، وإن كان العكس وددت أن تعيد كتابتها ، لكن هيهات هيهات ، (رفعت الأقلام وجفت الصحف ) ، فأحسن الكتابة الآن ، لتكون أجمل رواية ، يتناقلها طلابك إن كنت معلما ، ويتهاداها مراجعوك وزملاؤك إن كنت موظفا .
( أماوي إن المال غادٍ ورائح ويبقى من المال الأحاديث والذكر )، قاله حاتم الطائي وهذ أبعد مبتغاه ، ومنتهى بعده ، فكيف بمسلم علم أن عمله أمانة وأن أمرالله عليه ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) وأن هذا الذكر الذي أراده حاتم أعظم مقنع لزوجته لتنفق المال ولا تلمه فيه ، لوحصل له لكان شيئا عظيما من ثمن يوم سعادة لا تنتهي ( قال عليه الصلاة والسلام : أنتم شهداء الله في أرضه ) وقال كذلك : (أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة ، فقلنا وثلاثة ؟ قال وثلاثة ، فقلنا واثنان ؟ قال واثنان . ثم لم نسأله عن الواحد ).
• السطر الثاني : ارم بالنظر في الآفاق مداه ، وارتفع به عن الحضيض لا يصطدم بما عليه فيعلق به أو يتعثر ، ثم اتبعه مجتهدا ، لاتستغلى ثمنا ، ولاتستكثر وقتا ، فالمال زائل أو لوارث متروك والوقت فائت لايدرك ولايخزن ، الشمس تجري ، والقمر يختلف منازلا ، قد قضيت في قريتي ثلاثة عشر عاما معلما ، كل عام هو مثل سابقه ، نسخة تتكرر ، حتى تفاجأت بطلاب درستهم صاروا زملاء لي ، وقد كنت أمانع كل عرض فيه انتقال من موقعي ، مصرا على البقاء فيه …وليتني وعيت مبكرا قول من أحسن المعنى بنظمه إذ قال :
مافي المقام لذي عقل وذي أدب
من راحة فدع الأوطان واغترب
إني رأيت وقوف الماء يفسده
إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب
مر علي طالب منتسب في المرحلة المتوسطة، رجل قد تزوج وولده في المدرسة ، كانت نتائجه أفضل من الطلاب المنتظمين ، حتى أنهى المرحلة المتوسطة ، ولم يجد ثانوية ليلية إلا على بعد ستين كيلومترا وربماتزيد ، فسجل فيها وانتظم ، وتمر السنة تلو السنة ، ويحمل شهادة الثانوية العامة ، ثم يواصل في ظل زحمة مهامه ، أب وعيال قد كبروا ، ووظيفة دوامها حتى الساعة الثانية والنصف ، وجامعة هو عنها ناءٍ ، لكنه يتحمل المصاريف والمشقة ، ويحصل على البكالوريوس ، طارده أكثر من عشر سنوات ، لم يمل أو يكل ، ثم هو لم يبق كماء راكد ، بل جرى فطاب ! وغيره كثير من الذين لايتوقفون عن تنمية مهنية لأنفسهم وتطوير ذواتهم ، يلتحقون بالدورات ويدفعون الأثمان ، فارتقوا وتمكنوا من خدمة المجتمع حسب تخصصاتهم ، واستمتعوا بطعم الحياة ، التي بداية طريقها من هنا ، وينتهي بهم في دار كلها متعة وسعادة .
– ومن طريف مامر معي ، أني كلفت بمهمة خارج الوطن من قبل وزارة التربية والتعليم آنذاك في (دولة كينيا) وكنا فريقا ، أنا من تعليم جدة ، وهم من بقية المناطق ، وفينا ممن (صحو مع الصحوة) فكان من برنامجنا نزهة برية ، استعددنا لها ، وعرض علينا أن يركب معنا سواح فرنسيون ، فاحمرت الوجوه استنكارا وتطاير الشرار من العيون غضبا ، وصرخوا منعا وامتناعا ، فاستغربت ولكني جهّلت نفسي وقلت هم أفهم مني ، ولا مشكلة ، مع أنني في الحقيقة وددت أن يركبوا معنا لعلهم يرون منا خيرا ، وصورة للتعامل الإسلامي ، لكنه لم يكن ، فأمضينا يوم النزهة حتى إذ غربت الشمس قفلنا آيبين ، تعطلت سيارتنا ، ولا اتصال ولا عابري سبيل، والطريق غير معبد ، تحفه الوحوش والحيوانات البرية المتوحشة نراها رأي العين ، وقد بلغت القلوب الحناجر أو قاربت ،والظلام يرخي علينا سدوله ، فلا نرى ما نحذره ولو كان حولنا ،وإذا بسيارة الفرنسيين تمر من جانبنا ، الزملاء يؤشرون لها لتسعفنا ، والفرنسيون يتصورون أننا نريد أن نحسن الصورة والإشارة تحية ، وتوديع ، وماعلموا ، أنه قد يكون الوداع من أنفسنا لأنفسنا ! فحدثت نفسي لحظتها قائلا : ما أجمل أن نتعلم ونتوسط في أمورنا ونبعد عن التطرف ونحسن للناس (لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) إن كان هذا المنهج وهم معنا في ديارنا ، فكيف ونحن الذين في ديارهم ؟
• السطر الثالث : أخصصه للتربويين وعام في حق الباقين ، التربية مهارة ، والتعليم خبرة ودراية ، وتقوى الله في كل شأن مطلب ، وإليكم ثلاثة المواقف هذه:
بلا تعليق :
1- في يوم اثنين كنت صائما متنفلا وكانت الحصة الخامسة لي على التوالي ، -ولقد عملت بنصاب كامل طيلة عملي معلما ماعدا عام أو عامين فقط كان أقل بقليل- دخلت الحصة وشعرت بالإجهاد والجو حار وهذه الحصة الخامسة ، فرأيت أن أقفل باب الصف تسترا على موقف غير معهود مني ، وحياء من زميل ، وأن أجلس وأقضي الحصة بشيء أشغلها به وأؤجل الدرس المعد ، وعندما كدت أن أقفل الباب ، تحرك واعظ الله في قلبي كما في الحديث الذي صححه الألباني –رحمه الله – ( واعظ الله في قلب كل مؤمن ) وقلت لنفسي : عمن ستقفل الباب ؟ أنسيت من لا يسترك عنه شيء ، ويعلم كل شيء ؟ ثم صومي هو نافلة والعمل أمانة واجب ، فنشطت من الخوف فرارا للسلامة وأداء الأمانة ، وتفاعل الطلاب في الدرس وامتلأت السبورة شرحا مكتوبا ونشاطات تعليمية … وفي تلك اللحظات ونحن في قريتنا النائية والممتنعة بوعورة الطريق ما شعرت إلا بمدير عام التعليم في المنطقة الغربية الدكتور عبدالله الزيد ومعه مدير الإشراف التربوي ومدير المتابعة الإدارية ومن خلفهم مدير المدرسة -يرحمه الله- يشير لي أن الزائر هو فلان فلان وعيناه تحدقان تهويلا وتحذيرا لآخذ حذري واستعد فهذه لجنة مكونة من صاحب صلاحية عالية ، ومقرر فني مفوض ، ومنفذ للأحكام والعقوبات ، فابتسمت وقد لامني بعد على ابتسامتي هذه ، يقول أنبهك وتضحك ؟؟ فحكيت له القصة وقلت لحظة من تقوى الله أكرمني الله بها ، فنشطت وقمت لعملي ، وإلا مهما ذكرت للمدير العام من جدي واجتهادي لن ينظر له ، وقد رأت عيناه مالا يحب . فما أعظم التقوى ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لايحتسب ).
2- حب ماتعمل ولاتعمل ماتحب ، فالتذمر والتسخط من العمل لانجاح معهما ، فإما أنه لايتم تنفيذالعمل ، أوأن ما يتم تنفيذه فبرعونة ، وعدم اكتراث ، سيء يجلب أسوأ منه. والنظام ضروي لابد أن يحب ، ويجب فهم أن النظام إنما وضع لتحقيق المصالح ، فمتى ما لم يحققها كان من الضروي تجاوزه .
– اتصل بي مدير مدرسة نائية وأخبرني أن طفلا يأتي مع أقرانه المسجلين لهذا العام في الصف الأول ، ولم يتم تسجيله لعدم اكتمال أوراقه ، بسبب أن أباه غاب وتركهم ولايُعلم أين هو ! وكل يوم منذ عشرة أيام يأتي مع الأطفال أقرانه ويبقى عند باب المدرسة ينتظرهم في ظل الجدار حتى يخرجوا ، والظل يقصر عنه وهو يتبعه .
قلت أدخله وسجله بما توفر من أوراق ، حتى نفرغ من أعمال بداية السنة الدراسية ونعود له ، فتخوف من النظام وما يترتب على المخالفة من عقوبة قوية ، قلت له قل أمرني بهذا مدير المكتب .
ومع كون المدرسة نائية جدا ومن دونها مدارس كذلك نائية في قرى متناثرة ، إلا أن لجنة المتابعة من الإدارة العامة زارت المدرسة ، كأنما أحد أخبرها بالمخالفة ، ولا أستبعد ذلك ، فاتصل المدير لحظتها وأخبرني ، وأكدت له أن قل مدير المكتب أمرني ، فخشي علي من التبعات ، – جزاه الله عني خيرا – حتى قال دعني أتحملها فخدمتي توشك على النهاية ، ولم يزل بي حتى طمأنته ، وكُتب التقرير وتم الاتصال علي من اللجنة يتأكدون وأقررت بذنبي ، ثم وجهت لي المساءلة رسميا وأذكر أن من جوابي أن قلت ( العالم يحتفل بمحو الأمية وتريدونني أنشرها بسبب إهمال أب لابنه ، وماذنب الطفل ؟) وختاما للقصة فقد كان مدير التعليم أكبر مني فكرا وأفهم للمشكلة ، ولم يشغل نفسه بالمخالفة ولا بالمساءلة وقدر الحالة والظرف ، وأقر ما رأيت ووضع حلا مؤقتا ، ثم تحقق المطوب ودرس الطفل ، وحدث قبل أيام صدفة ،أن جرى اتصال بيني وبين مدير تلك المدرسة غير مقصود وسألته عن ذلك الطفل ، قال هو الآن رجلا تجاوز مرحلة الثانوية ..!
ومن المحزن المضحك موقف حصل في إحدى مدارسنا هنا في محافظتنا ، طفل يسجل في الصف الأول يلتقي بطفل سبقه بعام ، وقد علم أنه سيدخل المدرسة ، فقال له ( ياويلك والله يضربونك ) فخاف وأخبر أباه بالأمر ، لكن أباه طمأنه وأكد له أنهم يحبون الطلاب وسيكرمونك ويرحبون بك ..الخ
في اليوم الثاني من بدء الدراسة يعود الطفل للبيت مرعوبا ، ويخبر بأنه ضربه رجل !!!! تحققت نبوءة ذاك الطفل ، المدعومة بالتجربة فقد أكمل عاما من الخبرة .
وبحثوا مع طفلهم الأمر ، وكان مما قاله ( في المدرسة ضربني بأنبوب في ظهري ويقول : يللا يللا فصلك فصلك ) لايعرف الطفل مالفصل ؟ ولم يزل في الأسبوع التمهيدي . ومثل هذا الموقف يحدث في المدرسة وغير المدرسة ، حتى في المستشفيات وفي المطاعم ، حينما نلبس ثوب رعونة ، ونضع على عيوننا نظارات تحجب الرؤيا وتحجز الفكر، ويبرر الفاعل خطأه ، ونقبل نحن عذره ونأتي بأعذار نعزز له .
وختاما وقد سردت من جعبة الذكريات مترسلا ، كأنما أروي من أضغاث الأحلام ما مرت عليه أعوام ، أرجو أن تكونوا قد وجدتم ما يستحق القراءة .
أحمد مهنا الصحفي