الحقيقة الظاهرة للعيان أمرٌ واقعٌ، لكنها حقيقة يجب أنْ نخترقها؛ لكي نكتشف الحقيقة المطلقة لها، وهذا يتطلب من الإنسان الفهم القويم الذي هو الحكمة الحقيقية، وليس مجرد التفكير في الحقيقة الذي لن يكون كافياً، إذْ علينا أن ندرك الحقيقة بأنفسنا، وأن نرى الأشياء كما هي حقاً، لا كما تبدو فقط.
ولعبورنا إلى ذلك الفهم القويم، علينا أن نعي جيداً أنَّه لربما تبقى الأفكار،غير أنَّ طبيعة نمط التفكير تتغير، وأن الاحتفاظ بالوعي من لحظةٍ إلى أخرى، سيكون كافياً لمباشرة التفكير فيما يحدث لنا.
وهذا الفهم القويم إنْ وصلنا إلى جزيرته؛ سنكتشف أنَّه ثمة ثلاثة أنواع من الحكمة، فهناك الحكمة المكتسبة، والحكمة الفكرية،والحكمة الاختبارية.
ويُراد بالنوع الأول “الحكمة المكتسبة” هي المكتسبة من آخرين عبر قراءة كتب، أو الاستماع إلى مواعظ أو محاضرات، فهي حكمة شخص آخر يقرر إنسان أنْ يتبناها لنفسه.
وقد يكون هذا القبول ناجماً عن علمٍ أو جهل، أو أي أمر آخر، فإن تلك الحكمة ليست حكمة المرء بذاته، فهي ليست نِتاج تجربة شخصية، إنها حكمة مستعارة.
والنوع الثاني من الحكمة، هو “الحكمة الفكرية” وهي فهم فكري للمرء،فبعد قراءة تعاليم معينة،أو الاستماع إليها،يدرسها ويُدقق فيما إذا كانت بالفعل معقولة ومفيدة وعملية.
فإذا كانت مُرضية على المستوى الفكري؛ يتقبلها المرء ويعتبرها صحيحة.
ومع ذلك فهي ليست نِتاج تَبصُّره الذاتي، بل مجرد عقلنةٍ للحكمة التي سمعها أو قرأها.
وثالث أنواع الحكمة “الحكمة الاختبارية” وهي المُتولّدة من اختبارات المرء الذاتية، من الإدراك الشخصي للحقيقة.
وهذه هي الحكمة التي يعيشها المرء، هي الحكمة الحقيقية التي ستُحدث تغييراً في حياته،بتغيير طبيعة عقله في جوهرها.
وهذا لا ينفي فائدة النوعين الأولين من الحكمة “المكتسبة، والفكرية” بشرط أنْ تُلهما وتُرشدا إلى التقدم نحو النوع الثالث “الحكمة الاختبارية”.
لكن إذا بقينا راضين بمجرد تقبل الحكمة المكتسبة دون تساؤل أو استفهام؛ يصير ذلك ضرباً من الاسترقاق وحاجزاً على الطريق إلى جزيرة الفهم الاختباري.
ومن المنطلق ذاته، إذا بقينا راضين بمجرد التفكير في الحقيقة وتفحصّها وفهمها فكرياً، ولكن دون بذْل أي جُهدٍ لاستكشافها مباشرةً؛ يتحول كل فهْمنا الفكري عندئذٍ إلى استرقاق بدلاً أنْ يكون أداةً للانعتاق من التبعية الفكرية.
فعلى كل واحد منّا أنْ يستشعر الحقيقة بالاختبار المباشر، فلن يُفيدنا إدراك أي شخص آخر للحقيقة، مع أنَّه يمكن لإدراك ذلك الشخص أن يكون بمثابة إلهام لغيره من خلال تقديم إرشادات تُتَبع، ولكن في نهاية المطاف على كل إنسان أن يؤدي العمل بنفسه،فلن يفعل الذين بلغوا الهدف سوى الإرشاد إلى الطريق، ولا يمكن للحقيقة أنْ تُعاش أو تُجرب مباشرةً إلّا داخل ممرات ذات المرء، إِذْ كلُّ ما هو خارجها موجودٌ على المسافة نفسها من الجميع.
فاستعنْ بربك، وامضِ بنفسك، واصِّنعْ حكمتك.
سليمان مسلم البلادي
مستشار الوعي الإنساني
solimanalbiladi@
الحلقات السابقة من روشتة وعي