عندما خلق الله الكون وهيأه على أحسن صورة وابدعه إبداعًا يذهل العقل جعله متناسق بشكل مذهل وبديع ، ومن هنا البديع اسم من اسماء الله الحسنى، إذ أبدع كوناً من عدم ثم خلق الانسان ليستمتع بهذا الكون ويعمره بالحق ويكون خليفة في الأرض كما أراد الله العليم الخبير.
ولكي يكرم هذا المخلوق العجيب أمر ملائكته بالسجود له سجود تحية لا سجود عبادة فسجود العبادة لا يليق إلا بالخالق وحده فسجدت الملائكة تنفيذًا لأمر مالك الملك ولأن الله سبق في علمه الأزلي أن يكون هناك صراع بين الحق والباطل والهدى والضلال ابى ابليس أن يكون مع الساجدين وعلل عدم سجوده لأدم واحتج بأنه خير منه وهذا هو أول وبداية العنصرية والبادئ بها إبليس وما دام البادئ بهذه القضية ابليس فهي الضلال.
قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين وكان يرى برأيه القاصر أن عنصر النار أعلى منزلة وأرقى مكانة من عنصر الطين وأخذ في الجدال والعناد وكما كل الآراء والبدع لها مؤيدون تلقف بعض البشر هذه البدعة الابليسية وأخذوا يتفاخرون على بعضهم وكل واحد يدعي أن قبيلته وعرقه ودمه هو الاعلى والافضل رغم اشتراكهم في عنصر الطين والتراب وقامت النزاعات والحروب والجدال على هذا المبدأ وانبرى المتكبرون الذين يرون أنهم خير من خلق الله ويتطاولون على بعضهم (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) فرد الله عليهم بسؤال (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ) ثم يبين لهم ما هم عليه (بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) .
فإذاً على المرء ألا يتشبه بهؤلاء المغرورين المتغطرسين و أن يتواضع ليرفعه الله واعجب العجب عندما تسمع من قوم لم يكتب لهم التوفيق وسداد الرأي وبعدت عنهم الحكمة وجانبهم الصواب أن يرموا إخوانهم من اصلهم الترابي والطيني فيرمون بأن فلان لا أصل له ولا نسب ، وهذا الكلام غاية في الجهالة والحمق إذ أن كل إنسان مهما بلغ من وضاعة في الحسب والنسب لابد أن يكون له أصل فهو لم يسقط من السماء فالمرجع لبداية خلق الانسان هناك يتبين الأصل وهو التراب أبى من أبى ورضي من رضي ؛ لذا قال الله سبحانه وتعالى منبهاً كل من يحمل فكرة أنه الأفضل عرقا والانقى دماً ( فلا تزكوا انفسكم هو أعلم بمن اتقى) فهنا المقياس هو التقوى حتى ولو احمرت أنوف البعض واتقدت نارا فالحق يظل حقا والباطل يبقى باطلاً …
وهذه الفكرة الابليسية اتخذها أقوامٌ وراحوا يتفاخرون ويهزون اعطافهم وأكتافهم كبرا وعنجهية وأنهم هم الأصل وسواهم الفرع، وانا حقيقة قلّبت هذا الأمر ظاهراً و باطناً فلم أعلم المقصد من هذا الادعاء فالشيء الوحيد الذي أعلمه هو أن رسول الله(ص) و الذي لا ينطق عن الهوى قد حسمها من قبل ألف وأربعمائة عام حين قال ( كلكم لادم وادم من تراب فلا فضل لعربي على اعجمي إلا بالتقوى ) والقوم يردون على رسول الله قوله بمخالفتهم إياه ويدعون أنهم الاعلم ويزعمون أنهم الأعلى منزلة بين الناس ، حيث تطابق مع الادعاء الذي أطلقه ابليس في بداية خلق الانسان إذ نظر لادم نظرة ازدراء واحتقار وقال في عنجهية مقيته أنا خير منه ، فماهي إلا نفس العبارة ونفس اللفظ ونفس الادعاء والازدراء يطلقه البعض على البعض فأنا اصلي افضل من اصلك وخير منك اباً وجداً وقبيلة، فسيقف الجميع أمام الله ويسأل عن ادعائه فليحضّر كل أمرؤ جواباً للسؤال وان لم يكن فليقصر وليترك الحكم لله وليرضى بما قسم الله وحكم ويأخذ التواضع سلماً وخفض الجناح لإخوانه مركباً وليترك الفوقية وينبذ الطبقية وانه اعلى مرتبة من غيره حتى لا ينتظم في سلك اتباع ابليس الذين تبنوا فكرة عنصر أعلى من عنصر وعرق ارقى من عرق فيهلك برأيه.
إبراهيم يحيى أبو ليلى
مقالات سابقة للكاتب