النار.. والطين

عندما خلق الله الكون وهيأه على أحسن صورة وابدعه إبداعًا يذهل العقل جعله متناسق بشكل مذهل وبديع ، ومن هنا البديع اسم من اسماء الله الحسنى، إذ أبدع كوناً من عدم ثم خلق الانسان ليستمتع بهذا الكون ويعمره بالحق ويكون خليفة في الأرض كما أراد الله العليم الخبير.

ولكي يكرم هذا المخلوق العجيب أمر ملائكته بالسجود له سجود تحية لا سجود عبادة فسجود العبادة لا يليق إلا بالخالق وحده فسجدت الملائكة تنفيذًا لأمر مالك الملك ولأن الله سبق في علمه الأزلي أن يكون هناك صراع بين الحق والباطل والهدى والضلال ابى ابليس أن يكون مع الساجدين وعلل عدم سجوده لأدم واحتج بأنه خير منه وهذا هو أول وبداية العنصرية والبادئ بها إبليس وما دام البادئ بهذه القضية ابليس فهي الضلال.

 قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين وكان يرى برأيه القاصر أن عنصر النار أعلى منزلة وأرقى مكانة من عنصر الطين وأخذ في الجدال والعناد وكما كل الآراء والبدع لها مؤيدون تلقف بعض البشر هذه البدعة الابليسية وأخذوا يتفاخرون على بعضهم وكل واحد يدعي أن قبيلته وعرقه ودمه هو الاعلى والافضل رغم اشتراكهم في عنصر الطين والتراب وقامت النزاعات والحروب والجدال على هذا المبدأ وانبرى المتكبرون الذين يرون أنهم خير من خلق الله ويتطاولون على بعضهم (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) فرد الله عليهم بسؤال (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ) ثم يبين لهم ما هم عليه (بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) .

فإذاً على المرء ألا يتشبه بهؤلاء المغرورين المتغطرسين و أن يتواضع ليرفعه الله  واعجب العجب عندما تسمع من قوم لم يكتب لهم التوفيق وسداد الرأي وبعدت عنهم الحكمة وجانبهم الصواب أن يرموا إخوانهم من اصلهم الترابي والطيني فيرمون بأن فلان لا أصل له ولا نسب ، وهذا الكلام غاية في الجهالة والحمق إذ أن كل إنسان مهما بلغ من وضاعة في الحسب والنسب لابد أن يكون له أصل فهو لم يسقط من السماء  فالمرجع لبداية خلق الانسان هناك يتبين الأصل وهو التراب أبى من أبى ورضي من رضي ؛ لذا قال الله سبحانه وتعالى منبهاً كل من يحمل فكرة أنه الأفضل عرقا والانقى دماً ( فلا تزكوا انفسكم هو أعلم بمن اتقى) فهنا المقياس هو التقوى حتى ولو احمرت أنوف البعض واتقدت نارا فالحق يظل حقا والباطل يبقى باطلاً …

وهذه الفكرة الابليسية اتخذها أقوامٌ وراحوا يتفاخرون ويهزون اعطافهم وأكتافهم كبرا وعنجهية  وأنهم هم الأصل وسواهم الفرع، وانا حقيقة قلّبت هذا الأمر ظاهراً و باطناً  فلم أعلم المقصد من هذا الادعاء فالشيء الوحيد الذي أعلمه هو أن رسول الله(ص) و الذي لا ينطق عن الهوى قد حسمها من قبل ألف وأربعمائة عام حين قال ( كلكم لادم وادم من تراب فلا فضل لعربي على اعجمي إلا بالتقوى ) والقوم يردون على رسول الله قوله بمخالفتهم إياه ويدعون أنهم الاعلم ويزعمون أنهم الأعلى منزلة بين الناس ، حيث تطابق مع الادعاء الذي أطلقه ابليس في بداية خلق الانسان إذ نظر لادم نظرة ازدراء واحتقار وقال في عنجهية مقيته أنا خير منه ، فماهي إلا نفس العبارة ونفس اللفظ ونفس الادعاء والازدراء يطلقه البعض على البعض فأنا اصلي افضل من اصلك وخير منك اباً وجداً وقبيلة، فسيقف الجميع أمام الله ويسأل عن ادعائه فليحضّر كل أمرؤ جواباً للسؤال وان لم يكن فليقصر وليترك الحكم لله وليرضى بما قسم الله وحكم ويأخذ التواضع سلماً وخفض الجناح لإخوانه مركباً وليترك الفوقية وينبذ الطبقية وانه اعلى مرتبة من غيره حتى لا ينتظم في سلك اتباع ابليس الذين تبنوا فكرة عنصر أعلى من عنصر وعرق ارقى من عرق فيهلك برأيه.

إبراهيم يحيى أبو ليلى

مقالات سابقة للكاتب

8 تعليق على “النار.. والطين

حميدة الصبحي

نعم صدقت أستاذ إبراهيم!!
إن الكبر هو أول معصية عُصِيَ بها الله
سبحانه وتعالى.

عبدالكريم السالم

شكرا جزيلا أيها الكاتب المحترم

وضاح

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
استاذنا الفاضل كما عودتنا من خلال مقالاتك ذات الطابع الخاص والمتجدد والمتنوع والمميز
اجد صعوبه ومشقه الارتقاء بمشاركتى لقيمة محتوى ماتكتب من درر الكلام فلك منا جزيل الشكر وخالص الدعاء بان يجعل قلمكم كما عرفناه قلم صدق لا يكتب الا مايرضى الله سبحانه. لتسمح ابا احمد بهذه المشاركة المتواضعة.
خلقنا الله ننتمى جميعا لاب واحد وأم واحده ورغم الانتماء في الأصل والتركيب الا انه لحكمه جعلنا نختلف في الطباع والأفكار والألوان والغرائز
وهذه الاختلافات لاتمثل خطرا على السلم الاجتماعي لان ديننا شامل ولم يترك لنا صغيره ولا كبيره الا بينها وفصلها وعمل على إدارة وتوثيق العلاقات والآداب التى تربطنا مع بعضنا كمسلمين ومع من نختلف معهم في الدين لاننا جميعا بحاجة لبعضنا البعض ونتيجه للتنشئة الخاطئة والموروثات الاجتماعية والمفاهيم الخاطئة التى غرست في بعض العقول والتواصل السلبي الإعلامي أدت الى تأجج ثقافه العنصريه والكراهية والتعالي وتبادل النظرة الدونيه لمن نختلف معهم والتعالي على بعضنا البعض بأقوال وأفعال قاسيه وظالمه تسبب في عداء صامت قد يتحول الى ردود افعال من ما يجعل علاقاتنا عدائيه وتصادميه وتصرفاتنا متهوره وهذا ما يسعى اليه اعدائنا من خلال تطبيق نظريه ابليس.

ابو عبد العزيز

ابا ليلي كم انت رائع بفكرك وطرحك لمواضيع ينشرح لها الصدر لما فيه من حقائق وكلمات رائعة جذابة تكشف معدن كاتبها الكاتب الكبير الذي اشتاق لكتابته فشكرا لك كاتبنا الأديب ابا ليلى .

🌹🌷مرضية هوساوي

الف شكر وتقدير الي الا أستاذ ابراهيم ابو ليلي وقلمك الذهبي كلامك صحيح مية في المية ونحن امه وأحد الكل بي الله والرب واحد اهنيك 👍👍

د حمزة المغربي

طرح راق و مؤطر، و ربط جميل بين ما يعثقده الجهلة بالفوقية التي نشأت من الاعتقاد بوجود مفاضلة في الأصل أو المنشأ بناءً على القاعدة الوهمية التي أسسها إبليس نعوذ بالله منه.
بقي أن أنوّه أن هنالك اصطفاء من رب العالمين لقوم أو ذرية يجب أن نفهمها بمقصدها الشرعي؛ فمثلاً اصطفاء بني إسرائيل كان في حينه على من يعيشون بينهم بسبب إيمانهم و اتباعهم لأنبيائهم، و عندما ظنوا خاطئين بأنّهم شعب الله المختار و بفوقيتهم على غيرهم بجنسهم و ليس بطاعة الله و رسله عندها أخطأوا الفهم و فكّوا ارتباط اختيارهم باتباعهم الرسل فجاءهم الرد الحاسم (بل أنتم بشر ممن خلق)، كذلك الأمر في اصطفاء آل عمران و آل إبراهيم و آل محمد عليهم جميعاً أفضل الصلاة و التسليم مرتبط بتقوى الله عز وجل و متى ما تجرد عن ذلك فلا يغني عنهم من الله شيئا و لا يعلي لهم على من سواهم درجة. و أختم بأن هذه المفاهيم لا بد أن تصحّح و قد يستلزم ذلك تصحيح الموروث في بعض المرجعيات الفقهية التي تعزّز المفاضلة في النسب بما لم يرد به أصل شرعي بل هو مخالف للعديد من النصوص الشرعية و المنهج النبوي بأن لا فضل لعربي على عجمي إلاّ بالتقوى و أنّ ( أكرمكم عند الله أتقاكم).

عواطف الثلابي .

الكلمة أحيانًا تكون سند ، وأحيانًا تكون خنجر مسموم ، أدركت ذلك عندما راقبت تأثير الكلمات على الناس وكيف تأثر عليهم ، إني أهاب الكلمة أكثر من أي شيء ”
ان للكلمة اثر عظيم في النفوس، وفي عصرنا أشعر اننا رجعنا إلى الوراء بسبب من اساء استخدام عقليته في بث خطاب الكراهيه بكلماته او أفعاله العنصريه المقيته ..
بداية البشريه بدأت بالنبي ابو البشر آدم عليه السلام وامنا حواء فلا اختلاف ولاتمايز كلنا نرجع لنفس الاصل وكلنا خلقنا الله عزوجل بيديه . ولو اختلفنا بالشكل واللغة اساسنا واحد وهذا الذي يجب تأصيله في النفوس منذ الصغر أننا سواسيه ومعيار التقوى هو الأساس قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم
(ان أكرمكم عند الله اتقاكم) وان الله سبحانه وتعالى ينظر إلى الأعمال والقلوب قبل الحسب والنسب، فالغرور والكبر باطل الشيطان
ونهاية كل انسان قبر صغير ونفس الكفن الأبيض جميعنا فيه سواسيه، حينها تنتهي كل الاعذار ولاينفع اي اعتذار ..
يجب أن تندثر وتعاقب تلك العقول التي تصدر وتبث العنف اللفظي والكلمات الجارحه يجب أن يندثر كل من يصدر الكراهيه والتكبر على البشر والرفق والرحمه من أخلاق المؤمن الصادق.
فالجنة ليست لعالي النسب والحسب بل يسأل الله الانسان ماذا كسب من أعمال صالحه تشفع له وقت الحساب ..

ديلاور

حينما تكون عباداتنا وصلواتنا جوفاء مظهرا فاقد للجوهر فلن يكون لها تأثير على سلوكنا وطريقه تعاملنا مع الاخرين اذا علينا ان نراجع أيماننا لانه لم تتجسد فيه محاسن الأخلاق ومكارمه وهذا الصنف يسيئ للإسلام لان المسلم الحقيقي من سلم الناس من لسانه ويده.
فان صلحت العباده التعبديه الشعائرية صلحت العباده التعامليه فالسلوك من خلال التعامل والأقوال والأفعال تظهر حقيقه مدى تدين الإنسان والتزامه بما امر الله به.
فعندما تكون اخلاقنا وتعاملنا مبنى على أسس ومبادئ تفوح منها العنصريه والكبرياء ونظرات الاستعلاء فقد تنطبق علينا مقولة ابن القيم رحمه الله في الظاهر ادلاء وفي الحقيقة قطاع طرق. لنبدأ بأنفسنا ونتخلص من سوء الخلق !!!!!!!!!!

الاستاذ والمفكر ابراهيم ابوليلى نحن في زمن أصبحنا فيه بحاجه ماسه وضروريه لمثل هذه المقالات التى تحثنا على التمسك بأصول ديننا وقيمنا ومبادئنا وتهذب من خلال الكلمه بعض التجاوزات الأخلاقية والانفلات في بعض السلوكيات ليبقى الاحترام سيد المواقف حتى مع من نختلف معهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *