رسائل مبتعث – ٤

الرسالة الرابعة

سرنا في الشارع الرئيسي من أمام الفندق ثم أنعطفنا يميناً إلى شارعٍ فرعي ذو إتجاهين بخطين أصفرين متصلين فيما بينهما ، كان الإضاءة في الشارع بسيطة ، والشارع يمر من خلال حي أو أحياء متصلة ،لاحظت بأن صالح يتوقف عند كل تقاطع قليلاً ثم يواصل سيره على الرغم من عدم وجود سيارات في الشارع المقاطع ، تحرك لدي حب الفضول أو رغبة المعرفة إن أردت أن ألطف اللفظة قليلاً ، فسألته لماذا تقف ، فأجابني أترى علامة التوقف ( Stop Sign ) قلت له نعم ، فقال هي التي تجعلني أتوقف ، تعجبت من ذلك وودت لو أن الناس لدينا يفعلون ذلك لزيادة ضمان سلامة الآخرين خاصة في داخل الاحياء السكنية التي لا يوجد بها إشارات مرورية ، شعرت بأنني زودتها بكثرة الأسئلة وخشيت بأن كثرتها قد تكشف لهم حقيقة قلة خبرتي فأثرت السكوت على الأقل الآن لوجود شخص آخرمثلي “بكرتونه” كما قال عن نفسه وأعجبني الوصف في هذه اللحظة بالذات ، بعد حوالي نصف ساعة وصلنا إلى بوابة بشبك حديدي يوجد قبلها على يسار الداخل عمود به جهاز إتصال داخلي ، تقدم صالح بجانبه بالسيارة ثم ضعط أرقاماً عرفت فيما بعد بأنها رقم منزل “أبو عبدالله” ، أجابه ثم فتح البوابة ، دخلنا وبعد لحظات وقفنا في مواقف السيارات أمام بيت “أبو عبدالله” ، كنت آخر من نزل من السيارة ثم توجهنا إلى الداخل ، أستقبلنا أبو عبدالله عند الباب بإبتسامته التي تكاد أنتكون ضحكة مكتومة ، وبصوت جهوري نوعاً ما يخيل إلى السامع له أنه بأن مصدره قد تجاوز الشفتين واللسان وجميع الحبال الصوتية مع الحنجرة وجاء إلينا قادماً من أقصى مكان في قلبه ، عندما مددت يدي لأصافحه شدني إليه ضاغطاً على يدي برفق وعانقني “عُربة” شعرت خلالها بأنني أضم وطناً بأكمله وليس شخصاً أقابله لأول مرة في حياتي ، لا أدري كيف جاء اليّ هذا الشعور ، ربما لأن أبو عبدالله بقامته الفارهة وجسمه المائل قليلاً إلى الإمتلاء ، ووجهه الذي قد غزته بعض التجاعيد في أولى مراحلها ولحيته الصغيرة التي خالطها بعض البياض قد ذكّرني بأبي ، وبعد أن ترك يدي ، وددت لو أن أبا عبدالله أستمر في معانقتي لوقت أطول إذ أنني مذ أن رأيته شعرت بالراحة والأمان … عندما دخلنا وجدت مجموعة تتجاوز الخمسة عشر شخصاً ، قاموا كلهم للترحيب بنا ، عرّفني عليهم صالح وراشد ، لم أحفظ جميع الأسماء وإنما عرفت بعضها بعد أن أستقر بنا المجلس ودارات الأحاديث عن اللغة الإنجليزية ، والدراسة والإختبارات والقبولات والملحقية والمشرف الدراسي ، والنادي الطلابي وغيرها من هموم المغتربين المبتعثين التي من كثر ما تكلم عنها الجميع شعرت أن رأسي لم يعد قادراً على تحمل أي نوع من المعلومات الجديدة والذي كان بعضها مبشراً والجزء الأقل منها منفراً نوعاً إذ أن كلشخص يرى الأمور من وجهة نظره هو ، فقررت أن أسرح وأتفرس في الوجوه التي أراها أمامي … سرحت لوقت خُيل إلي أنه طويل جداً ولم أنتبه إلا على صوت راشد يقول لي ، هذا “حمد” من طريف ، وهذا “عيسى” من الشرقية ، وهذا “سعيد” من أبها ، وهذا “تركي” من الرياض ، وهذا “عماد” من مكة المكرمة ، وهذا “بندر” من القصيم، وهذا “مهدي” من جيزان ، وهذا “محمود” من جدة ، وأنا نسيت أقول لك إني من تبوك وطبعاً أبو عبدالله من المدينة المنورة ، أخذت أراجع الأسماء والمناطق التي هم منها ، وبسرعة خطر على بالي إحتفال الجنادرية و”أوبريت عرائس المملكة” ، هاهم رجال المملكة ماثلين أمامي من جميع المناطق تجمعهم غرفة واحدة وهدف واحد فشكرت الله على نعمة الأخوة التي يتمتعون بها وشعرت بمدى بُعد نظر خادم الحرمين الشريفين “رحمه الله” عندما بدأ برنامج الإبتعاث لما له من فوائد أحدها تعارف أبناء المناطق على بعضهم البعض في الغربة بما يزيد أواصر الترابط بينهم حالياً ومستقبلاً ، فدعوت له من كل قلبي بأن يجزيه عنا كل خير ويسكنه أعلى الجنان…. سألت راشد عن أبو عبدالله ، أهو طالب أيضاً !!؟ حيث أنني لم أتوقع منه إلا أن يكون مرابطاً في البيت ، فقال أبو عبدالله قصته تختلف عن الجميع ، متقاعد من عمله الحر ، جاء مع زوجته التي يكبرها بعدد أصابع اليد الواحدةمضروباً في أربعة مع أبنائهم الثلاثة حيث هي قدمت لتُحضر الماجستير والدكتوراه  في تقنيات التعليم مبتعثة من جامعتها التي تعمل بها معيدة ، وهو لم ينل من العلم إلا الشهادة الثانوية ، وإنما عصرته الأيام والسنين وأضافت إليه مع كثرة الإطلاع والقراءة والدورات المتنوعة التي حضرها الشيء الكثير فجعلت منه مكتبة أو قل جامعة متحركة على رجلين ، لم يرضى لنفسه أن يكون ماكثاً في البيت ، فتقدم إلى الملحقية ودرس اللغة الإنجليزية وهو الآن في السنة الثالثة في الجامعة ، وأضاف بعدها “هو من يعلمنا الطموح والإصرار هنا، ويشد من عزمنا كلما شعرنا بالتراخي نوعاً ما”… أمتدت السهرة حتى الساعة الواحدة صباحاً تخللها القهوة العربية ، والشاي ، تنوعت الأحاديث إلى أن حان العشاء فتقافز الجميع كل يؤدي دوراً في التقديم وكرم الضيافة ، ثم بعد العشاءوالشاي كما هي العادة في بلدنا ، أستاذن بعضهم فأقترب الباقين من بعض ، ودار الحديث مختصراً معي ومع منصور وكان الطرف الثالث أبو عبدالله ، بعد الترحيب بنا للمرة ….. بعد العاشرة ، قال “أسمعوا أعتبروني أبوكم أو أخوكم أو صديقكم المهم أي شيء أنا تحت أمركم ، عندي بفضل الله خبرات في أشياء كثيرة لا يردكم غير السنتكم” شعرت بزيادة الأمان ، فقلت له أيش تنصحني أنا أول مرة أسافر وخايف من الغربة وكذلك من دراسة اللغة الإنجليزية ونفس الشيء قال منصور وزاد ” أنا ماني قادر أتحمل فراق أبوي وأمي وخايف ما أكمل”….. نظر إلينا بعينين في أحداهما الرأفة والرحمة وفي الأخرى الحزم والشدة فشعرت من نظراته برعب للحظات تمنيت لو أنني لم أتكلم ، لم تمضي برهة حتى قال …….

سأكمل لك في الرسالة التالية ، إلى لقاء.

للإطلاع علي الحلقات السابقة : اضغط هنا

 

2 تعليق على “رسائل مبتعث – ٤

تيسير الصحفي

ياسلام عليكم…….قسم بالله جعلتني أتحمس للعودة إلى الدراسة والإبتعاث مرة آخرى حيث أن النية موجودة والله يساعدنا

عبدالعزيز مبروك الصحفي

شد حيلك والتوفيق بيد الله سبحانه وتعالى .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *