الرسالة السادسة
بعد هذا الدرس المفيد من أبو عبدالله جزاه الله خيراً ، ودعناه وغادرنا وكلي شوق لو أن الجلسة معه أستمرت لوقت أطول ، أوصلني صالح ومعه راشد ومنصور إلى الفندق ، وأثناء الطريق عرفت من منصور أنه جاء قبل ثلاثة أسابيع ومنذ الأسبوع الأول شعر بضيق كبير وفراغ عاطفي لم يعرف كيف أن يتعامل معه ، فعزم على العودة لأنه لم يتحمل فراق أهله وأصدقاءه وأيضاً لم يستطع أن يتأقلم مع أي شيء حوله بدأً من الأكل وإنتهاءً باللغة التي تبخر منها كل شيء درسة في الثانوية بمجرد وصوله أرض المطار في واشنطن … وإنما بالصدفة وأثناء إنتظاره في موقف الحافلة التابعة للجامعة للذهاب إلى مسكنه شاهده راشد وهو ماراً بسيارته ، وبحسه العالي عرف أنه جديد ، ولا تسألني كيف عرف أنه جديد لأنه موقف طريف ، فقد قال لي راشد بأن المسألة لا تحتاج إلا إلى القليل من التدقيق في الوجوه لتعرف أن الشخص جديد ، فسترى في الشخص الجديد بأن العينين مبحلقة وكأنهما فنجاني قهوة عربية خالية وتدور في كل الإتجاهات يتبعها الرأس مع إمتداد للرقبة إلى الأمام أو حيثما ألتفت الشخص ويخيل إليك أن أذنيه قد طالتا قليلاً وإستدارتا حتى أصبحتا وكأنهما هوائي طبق فضائي في محاولة يائسة لإلتقاط كل ما يدور حوله من أحاديث ، أضف إلى ذلك أن الفم مفتوح ولا تدري هل الشخص يتنفس أم أنه في راحة لا شعورية للرئتين ، ويتبع هذا كله حركات لا إرادية في تحسس المحفظة والجوال كلما شعر بأن هناك من ينظر إليه …. نعود إلى منصور الذي أخبرني بأنه بمجرد أن ركب مع راشد لإيصاله لمسكنه شعر بإرتياح ربما لفارق السن بينهما في صالح راشد فصارحه بما يشعر به … طمأنه راشد وقد له “هذا عادي يسمونها هنا (هوم سِك) أي الحنين إلى الوطن” وهو شعور طبيعي يمر به كل من غادر مسقط رأسه وأهله وإنما بدرجات متفاوته حسب الخبرات في الحياة والتعود على السفر وغالباً يكون أكثر قوة لدى من هم يسافرون لأول مرة ، وبعد أن أوصله تواعد معه لأخذه في زيارة إلى أبو عبدالله ، وتم له ذلك ، فبعد قضاء ساعة تقريباً مع أبو عبدالله بحسن كلامه وخبرته الطويلة في التعامل في مثل هذه الأمور أزال عنه بعض ما كان يشعر به وهو الآن لا يستغني عن راشد وأبو عبدالله في تقديم النصائح له كلما شعر بقليل من عدم الراحة … وعرفت منهم أيضاً أن أبو عبدالله يعتبر هنا هو أبو الجميع وعلى الرغم من تقدمه في السن إلا أنه يتمتع بروح شبابية عالية ذات مرح فيه الكثير من حسن الآدب والحكمة التي تجعل الأغلبية يكن له التقدير والإحترام ويتواصلون معه عند الإستفسار عن بعض ما يحتاجونه … عرفت من منصور أنه يقيم في سكن قريب من الفندق بمسافة لا تزيد عن حوالي عشر دقائق مشياً على الأقدام ، فأتفق معي على أن يأتيني بعد ظهر يوم السبت لنذهب سوياً وأيضاً مشياً على الأقدام إلى سوق قريب من الفندق .. يعني كما يقول المثل “عمياء تحفف مجنونة” أي أننا إثناننا لا نتقن اللغة وليست لدينا خبرة في المنطقة وإنما لا بد من الجُراءة من أولها “هكذا قال له أبو عبدالله” حتى نكسر حاجز الخوف في التعامل مع الناس ، وصلنا إلى الفندق حيث أقيم وكانت الساعة قد أشرفت على الثالثة من صباح يوم السبت ، نزلت وودعتهم ثم توجهت إلى غرفتي وكانت هناك مفاجأة تنتظرني إذ أنني عندما أدخلت مفتاح الغرفة والذي هو على شكل بطاقة الصراف لم يُفتح الباب ، يعني “جاك يا مهنا ما لا تتمنى” ، كيف الدبره ، كيف أُفهم موظفة الإستقبال بالمشكلة … توكلت على الله وأستجمعت كل قواي وأنا عازم على الغوص في الماضي السحيق لسراديب عقلي لأستخرج منه ثلاث أو اربع كلمات إنجليزية تنقذني مما أنا فيه حيث أنني أود أن أقول لها “البطاقة ما فتحت الباب” ، طبعاً بعد جهد طويل وحكحكة في مقدمة الرأس ومؤخرته رجعت كما يقولون بخفي حنين ولم أشأ أن أتصل على راشد ، وفجأة تذكرت بأن جوالي به إنترنت فخطرت على بالي فكرة الإستعانة بمترجم قوقل فكتبت الجملة السابقة وجائني ماظننت بأنه طوق النجاة حيث ترجمها قوقل (The card is opened the door) (ذا كارد أز أوبيند ذا دور)…قلت في نفسي الآن يا أبو خليل الجملة موجودة ، بس كيف تقولها ، نزلت إلى الإستقبال ورميت نفسي على أحد المقاعد وأستغرقت في قراءة الجملة لعدة دقائق ثم أستجمعت قواي وتوجهت إلى موظفة الإستقبال وبكلمات متقطعة ولسان جف كل ما به من لُعاب نطقت الجملة وأنا على يقين بأنها ستفهمها ، وبكل خيبة أمل تتخيلها قالت لي (وات) ، فشعرت بأنني تلقيت صفعة قوية على خدي الأيمن تبعها ضربة عصا قوية على رأسي أطارت ثلاثة ارباع دماغي وغاص معها لساني إلى آخر جزء في حلقي ، ولكنني لملمت كل كا بقي لي من قوة وأرجعت لساني إلى مقدمة فمي فأخذت أكرر نفس الجملة وكأنني ببغاء تعلم الكلام حديثاً ، المهم مرت فترة ثم أخذت منعطفاً آخر بكلمات جاءتني على غفلة مني فقلت لها (ذس نو أوبن) وبالطبع صاحبها حركات باليد والجسم وتعابير الوجه وكأنني ممثل غشيم يحاول أن ينتزع البسمة من المشاهدين ،بعد هذا الفاصل الهزلي من جهتي ، أخذت البطاقة مني وأدخلتها في جهاز أمامها ثم أعطتني إياها قائلة (إت إز أوكيه ناو) ومن فرحتي ومداراة لفشلتي نسيت أن أشكرها… ذهبت إلى الغرفة وبعد أن دخلت أخذت شهيقاً عميقاً خُيل إلي أثناءه أنني لم أترك ذرة أوكسجين في الغرفة إلا أدخلتها إلى صدري فشعرت براحة عالية وإعتزاز بنفسي إذ أنني تكلمت إنجليزي وأفهمت من تكلمت معه بما أريد …. المهم أنني كسرت الحاجر الأول فأعجبتني فكرة مترجم قوقل ، فقضيت الساعات الباقية من الليل حتى حان الفجر وأنا أتجول معه وأسجل جمل وكلمات بنية إستخدامها في السوق مع منصور غداً .. صليت الفجر ثم نمت قرير العين إستعداداً لمشوار السوق ، وأنا أقول في نفسي ” خلاص الكلمات موجودة والحاجز كسرناه ، وأنا جايك يالإنجليزي” ، صحوت على طرق منصور للباب ، ففتحت له وأخبرته قصتي ، فقال لي ما عليك من ترجمة قوقل … أدخل الكلمة بالإنجليزي مرة أخرى لتعرف كيف يترجمها بالعربي ، وفعلاً أدخلتها ، فجاءت الترجمة كما يلي (يتم فتح بطاقة الباب) … يعني طلع عم قوقل من جنب القدة وما يُعتمد عليه في الترجمة وضاع كل مجهودك البارح يا إبراهيم في الكتابة والترجمة … وكنت أنا مستغرب من موظفة الإستقبال وأقول في نفسي ليش هذه ما تفهم أيش فيها ، وأتبعتها بكلمة أولها ب وأخرها تاء مربوطة ، وأخرتها طلعت أنا وعمك قوقل ما نفهم وإننا ث أخرها ن وبينهما ثلاثة أحرف…وعرفت من منصور أنه مر بشيء مشابه لذلك .. خرجنا من الفندق وكان الجو حاراً نوعا ما والشمس كأنها تبعد عن رأسي ثلاثة أمتار شعرت أثناءها بأن الباقي من دماغي بعد معاناة البارحة سوف يسيح ويخرج من أذني ، وفجأة… سأكمل لك في رسالتي القادمة.
للإطلاع علي الحلقات السابقة : اضغط هنا