رفوف لا تندثر

يتنفس الصباح كل يوم معلنًا دخول يوم جديد، وخوض مغامرة مختلفة عما قبلها، حاملاً معها أمان وآمال ودعوات ألا تكون البارحة كاليوم، لنسعد بها أكثر، ونقترب من أهدافنا بشكل أكبر، وندخل إلى قفص أمانينا بطريقة أوفر، لكن هذه الأماني لن تتحقق من ذاتها، ولا في يومها وليلتها، إذ ليس هناك في الواقع مارد متمرد، أو عفريت مديد، يتوطن في مصباح علاء الدين وينتظرك ليحققها لك، فقد يضيع معظمنا مشتتًا نفسه بين هذا وذاك، واختلاف التوازن الذي يشهده الكل تقريبًا في جميع الأمور الحياتية ..

إن التخطيط للحياة أمر له أهمية بالغة، فالطريق الذي نسلكه لا بد لنا فيه من وضع لوحات إرشادية لتحديد المبادئ التي علينا اتباعها، وبناء الرؤية التي نحملها على عاتقنا لأنفسنا، وتحديد المنهج الذي سيقودنا للهدف الذي نريد، فهذا النمط أو كما يسميه ستيفن كوفي “البوصلة” يوفر عنا عناء الذهاب لجهة خاطئة، ويكون دالاً ومرشدًا إيانا كيفية التصرف بيومنا، وتوزيع أوقاتنا بدون خسارة أو ضياع ..

تخيل معي ..! مكتبة كبيرة مليئة بالكتب المتنوعة، موزعة على كل رف من رفوفها بحسب التخصص الملائم لها، حتى إذا أردت البحث يسهل لك الوصول إلى المراد، كنت أذكر أن الشيخ أحمد بن حسين الوصي – رحمه الله – كانت له مكتبة خاصة مليئة بالكتب على جدرانها الأربع، وكان – رحمه الله – يعرف كل رف من رفوفها، ويحفظ اسم كل كتاب والرف الذي يوجد فيه كل كتاب، فهذا دليل على حبه وحفظه للكتب من التلف والضياع، وعلى تخطيطه الجيد، وترتيبه حسب الأولوية التي يريدها ..

ففي هذه الحياة لا بد أن تكون لنا رفوف نرتبها، وننظمها على حسب الأولوية والأهمية التي تهمنا، فالإسلام بأسْره جاء منظمًا لحياة البشر، ومؤكدًا على ضرورة الترتيب بين الأشياء بحسب أولويتها وأهميتها، قال تعالى:( واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم )، فالترتيب من أهم الصنائع التي تساعد على حفاظ الإنسان وقوته والسير على طريق نجاحه ..

فالكثير لا يعرف المقصود بالأولوية، والمفهوم بها يعني: وضع الأحق والأجدر والأقرب في المكان المخصص له، وتقديم الأهم على المهم، والمهم على غير المهم، وهذا من المفاهيم المهمة في ديننا الحنيف، فالأعمال متفاوتة وليست كلها في رتبة واحدة، فالرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – وصحبه الكرام كانوا حريصين على أن يعرفوا الأوْلى من الأعمال ليتقربوا بها إلى الله، فعلينا الاهتمام بغرس العقيدة التي كانت منهج الأنبياء والمصلحين من بعدهم، والسير على نهجهم، والاقتداء بهم ..

جاء في حديث معاذ لما سأله الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ( يا معاذ هل تدري ما حق الله على العباد ؟ وما حق العباد على الله ؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم )، فالحقوق متغايرة فعلينا تقديم الأجدر والأولى والأهم على ما سواهم، والمنهج المحمدي الذي رسمه الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – للكل أن جعل على كل مؤمن حقًا لله وعبادته بالكيفية التي فرضها الله علينا، ورسم أيضا – صلى الله عليه وسلم – أن للإنسان حق على نفسه وجسمه بالاهتمام به والمحافظة على كل عضو يمتلكه، فهذه نعم يُسأل عنها ويحاسب عليها يوم القيامة ..

ثم تأتي حقوق للآخر أو الشريك الذي يشاركك الوجود الإنساني، فشرع الله له حقوقا تخصه وتُراعى عند التعامل معه، فالحقوق تختلف باختلاف هذا الآخر، لكن الثابت هو ثبوت الحق له، والآخر هذا ليس مختصًا بالبشر فقط، فقد يكون شاملاً لمن حولك، فكل شيء في هذا الكون له حق تقدمه ..

قال تعالى:( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم … )، فالإسلام دين الكرامة والتوادّ والتراحم والتآلف، اهتم بكل شيء، وراعى الحقوق، ليكون مجتمعًا مثاليًا بعيدًا عن الحقد والكراهية، والرسالة الإسلامية ليست منحصرة بالبشر، فكل الكون ينعم في بيئة الإسلام بالحقوق ..

وقد ضرب النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – أروع الأمثلة في توازن هذه البوصلة، حتى يصل إلى درجة الغضب الشديد ممن يخالف الفطرة البشرية والسنة النبوية، فقد بلغه مرة أن أناسًا حلفوا – مبالغة في التعبد لله – بالامتناع عن النوم والزواج والأكل والشرب، فغضب عليهم وكان موقفه منهم حاسمًا لما ينتهجه من التوازن الذي بُعث به ..

قال تعالى:( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض … )، فقد وازن الاسلام بين المطالب كلها بانتظام وتلاؤم، والدين الحنيف دين التوسط والاعتدال في جميع الأحوال، وكل شيء له حدود ومطالب، فالشريعة أباحت كل شيء فيه منفعة، ونهت عن كل شيء فيه مفسدة، فلم يخلق الله الكون ليبقى منهمرًا غير مستثمَر أو لينزوي عن الخلق، بل ( وسخر لكم مافي السماوات ومافي الأرض جميعا منه … ) لاستكشافه والاستفادة من مكنوناته وكنوزه ..

فعلينا تكوين مكتبتنا، وتوصيل الحقوق إلى عناوينها، وترتيب رفوف حياتنا رفًا بعد رف حتى لا تندثر، وحتى نصل إلى مرادنا الجنة الذي كلنا لأجله نعمل .

 

سامر أحمد المزي

بكالوريوس شريعة
كاتب ومشرف في فريق بادر التطوعي ومشرف اللجنة الإعلامية بجمعية الأحياء بمكة

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *