صناعة الذوق الجمعي

كيف يصبح غير المستحسن، مستحسن لدينا فجأة بلا أسباب واضحة ؟

يتحدد ذوق الفرد بناءً على مقياس الذوق عند العامة، وهذا يغلب على الإختيار المستقل عن تلك التأثيرات والعوامل المُحدِدة لمعنى الذوق العام وتعريفه الإجتماعي. 

ينتج عن هذا الإقناع الجماعي التسليم اللاإرادي ببعض الآراء، خاصة حينما تكون متجمهرة، وهي المتحكم بما يسمى الموضة (الدُرجة).

تجد خصوبتها في الأوساط الأكبر عددًا فتشيع بسرعة وسهولة، وغالبًا ما نرى الدُرجة تفرِض أشياء لامعقولة، وتتمظهر في أشياء على قدر كبير من العبثية، وفوق ذلك تظل مثيرة بفضل العدوى الذهنية.

في الواقع، لا وجود لمعيار حقيقي لمقياس الجمال، فتعريف الجمال من شخص لآخر يختلف، ولكن في حالة الذوق الجمعي يصير حينها ذات معيار ومفهوم واحد، فلا أحد يقول بأن الجمال هو ما ترتاح له نفسي، بل ما يرتاح له الجماهير ؛ لأن المعيار السائد لقياس الذوق لدينا هو مدى مطابقة الشيء الذي يعجبك لأمزجة الاخرين، بمعنى انه لو أعجبت إختياراتك أغلب الناس ستصنف على انك ذا ذوق جميل والعكس.

إن ما يحدث خلف كواليس الإعلام الذي يروّج بدورهِ لنمذجة الميول الذوقية، يمتلك قدرة هائلة على خلق عقليات جمعية، لها نفس التوافقات، ومن يشذ عن تلك القاعدة يُعاب ذوقيًا، بحيث أننا مُقيدين -دون أن ندرك- على احتضان هذه الذائقة الجماهيرية.

مما يحكم الدُرجة هو الإهتمام اللحظي، الذي يعد أحد عناصرها، مايجعله قوي ونشط كفاية لأن يحتضنه الفرد، وهش بما يكفي لأن يتغير خلال فترات وجيزة.

هذه التغييرات تخلق التحولات في الاهتمامات والحاجات التي تتبدل من جيل لآخر.

فالعاطفة الذوقية إن صح التعبير، تسترعي الاهتمام بجوانب عديدة، أهمها جانب مدى رضا وقبول صنّاع الذوق العالمي بهذه العاطفة.

حتى صار التكرار والتأكيد على روعة وجماليّة شيء ما أو أسلوب معين يدفعنا إلى الأخذ بهِ دون أن نعي الأسباب.

وهذه تعتبر احدى أبرز القواعد الثابتة التي تساعد على الانتشار حتى داخل العينات الأكثر تعليمًا وثقافة.

فالذائقة العامة باتت تصنع قراراتنا ولا يدخل في هذه القوة أي إرادة عقلية، ولكننا نوهم أنفسنا بأنه كانت لنا قدرة التحكم والاختيار.

كما يلعب الجانب النفسي دوره، إذ يجد المرء الارتياح غالبًا فيما يألفه باقي المجتمع.

وهذه العوامل قد نراها تفاصيل صغيرة لا تستدعي الانتباه أو الالتفات لها، هي في الحقيقة تمتد في تأثيرها حتى تصل إلى تحديد ذائقتنا الأدبية والمسرحية والفنية، فتتغيّر القيمة المعنوية للأشياء وتتشكل، بحيث أن التوافق الجمعي الأكبر تجاه الشيء هو ما يمنحه قيمة لدى الأفراد ويتلقى استحسانهم.

يقول غوستاف لوبون: إن طريقة تفكيرنا وترجمة انطباعاتنا عن الأشياء تتغير بإستمرار، وهذا الخضوع للدُرجة ماهو إلا واحد من البراهين الواضحة على سطوة العدوى الذهنية.

 

نجلاء الشهري @La_femme9

مقالات سابقة للكاتب

2 تعليق على “صناعة الذوق الجمعي

أحمد بن مهنا

ما أجمل هذه المقالة !
عقلية المنطق ، صائبة المعنى ، واضحة ، جلية النظرة ، رائعة الأسلوب ، محكمة التعبير
سلم هذا الفكر .
وأضيف مداخلة فأقول : إن هذا السلوك مؤشر لتبعية تنشد قمة ما ، فتتبعت الأثر ولن يسبق من يقتفي الآثار ، إلا أن يكون الأثر دلالة طريق إلى قمة تسع الجميع ، كمقتفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام وصحابته ، وهو كذلك مؤشر لنقص نفسي خفي ، ورقّ فكري ، ينافي الاستقلالية الشخصية ويجعل الشخص يتلذذ بالتبعية ، وإلا فما لا معايير تضبطه شرعية أو قانونية أو حتى اجتماعية ما الذي يلزم به ؟ وكيف تتحقق المتعة والرفاهية به ؟ شكرا للكاتبة ، قد أبدعت وأفدت.

وجدان العطار

مقال رائع صديقتي ، أتفق معك تماما بالتأثر المجتمعي بما يسمى بالدُرجة دون أي تأثير للعقل لا باطني ولا خارجي وأن الوحيد المتحكم بعقل الإنسان هو الأداة الإعلانية ويعتبر القوة المطلقة في تغيير الذائقة لكل فرد وتوجهه الي ما هي تشاء، وكان لوسائل التواصل الاجتماعي الأثر الأكبر في ترك هذا الأثر على حياتنا وتجردها من الإرادة او العقل، إذا التذوق الجمعي ذو أثر رجعي لكل ما يتم التحكم به من خلال الإعلام بأن يصلح وسيلة اتصال مباشر لإغماء العقل واقناعه بالمنتج وهنا يأتي الدور الأخر وهو التأثر السلبي من بقية الأفراد التقليدي والسعي ورائهم مجموعات مغيبة وتابعة تحكمها قوة المعلن او المؤثر..
إلى أن تنتشر عدوى ذلك بين الأفراد ويبدأ التكرار والاستنساخ لنفس النهج والفكر لأن من يسيطر هو المتحكم بكل حرية ومسيطر على الرأي العام.. ويمكن تطبيق ذلك بعدة جوانب وأساسيات تعتبر قاعدة مثالية يمكن اسقاطها ع المجتمع كالسياسة والاقتصاد والأنظمة الإجتماعية..
ولا ننسى دور وتأثير بعض العادات التي تعيق حركة الفكر او التحرر من هذه الدُرجة..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *