بلد المليون واعظ!

يعرف الجميع كيف يجدر بأي شخص آخر أن يقوم بعمله، ولكن في -الغالب- لا أحد يعرف كيف يقوم بعمله بصورة تخلو من الخطأ.
فهو يملك نصيحة لكل شخص، ولكن يعجز عن تدبر أموره على نحو فعال يغنيه عن الناس.
والمتأمل لأغلب أحاديث المجالس والمناسبات الاجتماعية؛ يجد إنما هي لتزجية الوقت وقضاء ساعات تلك المناسبة التي نحضرها.
فلا يلزم منك تصحيح كل معلومة تراها خاطئة، وبيان وجهة نظرك المخالفة.
ولكن يمكنك ببساطة أن تتحدث بما تعرف أنه صحيح، وحسبك أن تعرضه دون أن تفرضه على الآخرين.
فتلك المجالس والمناسبات الاجتماعية ليست سباقاً محموماً من أجل ممارسة الوصاية العقلية، بل لمد جسور التواصل والقرب مع الناس.
فعليك أن تتزين بالبشاشة والاستماع والتواصل الفعال، لا أن تحضرها مشرعاً سيف الفرض عبر قصص الإرسال التي تتفن في حبكها.
فكن -في تلك المجالس والمناسبات الاجتماعية- مستمعاً جيداً؛ متحدثاً قدر الإمكان؛ تكسب راحة بالك وتكسب مودة الآخرين.
هذا ما يخص عالمنا الواقعي، أما على الجانب الآخر من عالمنا الافتراضي، فنجد أن وسائل التواصل تعج بالمواعظ والنصائح، ولو طبق كل واحد منا ربع تلك المواعظ التي نتراشق بها؛ فربما تتزاحم علينا الملائكة في الطرقات تصافحنا وحدانا وزرافات.
ومن شدة ما نمارسه من وعظٍ غير واعٍ، قيل: إذا أردت أن تتأكد من صحة معلومة؛ فاكتبها في قنوات التواصل الاجتماعي؛ وسيهرع القوم لتصحيح الخطأ الذي وقعت فيه.
ولعل علم الوعي له وقفة مع هذه الآفة المنتشرة فالوعي يقول لنا:
ليس ثمة ما يعزز الأنا أكثر من أن تشعر بأنها محقة.
فهذا يعني التماهي مع وضعية عقلية، مع منظور ما، مع رأي، مع حكم قيمي ما، مع قصة ما.
ولكي تكون محقاً -وفق مفهوم الأنا- تحتاج بالطبع أن يكون سواك مخطئاً، فتحب ” الأنا” البحث عن الأخطاء؛ لكي تكون محقة.
وبمعنى آخر: تحتاج إلى أن تجعل الآخرين مخطئين؛ لكي تستمد شعوراً أقوى بماهيتك. بل يمكنها تحويل ليس شخصاً فقط، بل ظرفاً أيضاً إلى مخطئ من خلال التذمر والتفاعلية، اللذين يحملان دائماً المعنى الضمني” هذا لا ينبغي أن يحدث” .
فأن تكون محقاً يضعك في موضع التفوق الأخلاقي المتخيل في ما يتعلق بالشخص أو الوضع الذي تحكم عليه وتجده مخطئاً.
إن هذا الإحساس بالتفوق الذي تبحث عنه “الأنا” وتعزز قواها من خلاله.
إن التماهي مع الأنا الزائفة التي بداخلك يمكنه أن يجد طريقاً للتسلل إذا وجدت نفسك تقول: “صدقني، إنني أعرف”، أو “لماذا لا تصدق أبداً؟”، فعندئذ تكون “الأنا” قد تسللت بالفعل. فهي تختبئ في الكلمة الصغيرة “إنني”.
فالحديث أصبح مشخصناً، وتحول إلى وضعية ذهنية. تُشعر “الأنا” بالتلاشي أو بالإهانة؛ لأن أحداً ما لا يصدق ما قد قلت.
حينها تأخذ “الأنا” كل شيء على محمل شخصي؛ فتنشأ المشاعر، والحس الدفاعي والمقاومة، وربما حتى العدوانية.

سليمان مسلم البلادي
مستشار الوعي الإنساني
solimanalbiladi@

الحلقات السابقة من روشتة وعي

4 تعليق على “بلد المليون واعظ!

نفاع بن مهنا بن ماضي الصحفي

طبيعة النفس البشرية الغفلة و لذلك أوصانا ربنا تعالى في كتابه الكريم(و ذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) و من نعم الله علينا وسائل التواصل الاجتماعي إذ لا يخلو يوم و أحيانا ساعة إلا و أجد من يذكرني بفضل ذكر نسيت فضله أو سنة مهجورة أو ترغيب فيما عند الله أو ترهيب من عذاب الله و هكذا فجزى الله خيرا كل من كلف نفسه عناء ارسال الموعظة لإخوانه و جعلها في ميزان حسناته .

أحمد بن مهنا الصحفي

كتاباتك أ. سليمان متفردة في معانيها ، تخاطب وهي صامتة ، كلماتها مضيئة وهي مكتوبة بمداد أسود ، ومهما بلغ سريان ضوء مصابيحنا يستوعبه امتداد آفاقها ، شكرا شكرا استمتعت جدا بقراءة هذا المقال ، زادك الله من فضله ونفع بك.

نفاع بن مهنا بن ماضي الصحفي

بلد المليون واعظ .. اللهم اجعلهم بالملايين .. ما أحوجنا إلى الدعاة الصادقين و الواعظين المصلحين في زماننا هذا .

عبدالله السلمي

أضم صوتي لصوت الأخ نفاع
وسائل التواصل قامت بدور كبير في نشر الوعي الديني عند الناس ونشرت السنة وكشفت البدعة وذكرت الغافل وعلمت الجاهل. وكم اتمنى لو قام حد الدارسين بإجراء بحث حول هذا الموضوع.
أما كون من يرسل تلك المواعظ لا يعمل بها فهذا ليس شرطاً ففي الحديث : رب مبلِّغ أوعى من سامع.
عشناً ردحاً من الزمن تسيطر على هوائه فضائيات تناصب الدين العداء وتسعى لتحقير السنة ونشر الفساد ، فأتت هذه الوسائل لتكتسحهم وتبعثر أوراقهم ، كما يبعثر النور الظلام. فلله الحمد من قبل ومن بعد. وصدق الله العظيم القائل ” فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *