المارد الصغیر

كانا یتجاذبان أطراف الحدیث، وفجأة قال له محدثه “ما رأیك فِي”، فرد عليه “أنت” وسكت، وكانت من أصعب المواقف، عندما یخونك التعبیر، تفقد الشعور بالألم وربما تفقد الحاجة إلى الشعور بأي شيء، فقط تظل تدور في داخلك وخارجك تبحث عن جملة أو حتى كلمة تعبر فیھا بصدق عما یجول بخاطرك في تلك اللحظة الحاسمة من حیاتك، وربما تحاول فقط أن تجد كلمة واحدة تبدأ بھا الحدیث، ولكن ھیھات تظل عیناك زائغتان ورأسك الصغیر تدور فیه آلاف من الھرمونات الشعوریة وقد تمتد إلى بقیة أعضاء جسدك، وإذنانك تصیخان السمع لعلھا تسمع شیئًا، وإنما یأتیك الصوت من داخلك فتسمع ملایین الفرقعات التي أحدثتھا الموصلات العصبیة وھي تتقافز بین الخلایا العصبیة وكأنك تراھا أمام عینیك وھي تحاول جاھدة إیصال المعلومات داخل الخلایا بتناسق عجیب لتصل إلى معلومة قدیمة أو حدیثة تكون مخزنة في أحد جوانب الدماغ لتسعفك بكلمة، ولكن دون جدوى..

أخیرًا تعرف یقینًا أن الكلمات أحیانًا قد تضیع وقد تنسى كل المفردات التي تعلمتھا في حیاتك في مواجھة موقف واحد ترید أن تقول فی رأیك بصراحة ولكنك لا تستطیع، ربما لأن كلمة صراحة نفسھا لم تعد تعرف لھا المعنى الحقیقي فھي فقط كلمة یُعبر الناس بھا عن الشفافیة والوضوح التي لیس لھا من حروفھا إلا إسمھا وأما المعنى الحقیقي لھا فقد تلاشى في خضم الكم الھائل من الكلمات المنمقة التي غیرت معناھا وجعلتھا تعني شیئًا آخرًا بعیدًا كل البعد عن معناھا الحقیقي، ولكي تخرج من ھذا الموقف العصیب تطلب من محدثك أن یمھلك لحظة فتغادر الموقع إلى حیث تختلي بنفسك، ترشف رشفة حفیفة من فنجان قھوتك التي زاد فیھا الحلیب عن القھوة حتى لا تنبھك أكثر مما أنت متنبه أو لنقل حتى لا تخرجك من حالة اللاوعي التي تركتھا كلمات محدثك فیك.

وبعد الرشفة الأولى والثانیة من فنجان قھوتك، عدت إلى نفسك، رأیتھا من الداخل والخارج وجدت نفسك أنك مثل بقیة البشر وخاصة في الزمن الذي تعیش فيه، إن قلت ما یجول في خاطرك بكل صدق قد تفقد أعز الأصدقاء وربما بعض من الأقرباء وإن لم تقلھا یظل ضمیرك یتألم وقد یمرض فیموت موتًا بطیئًا فتركب مع الجمیع في نفس السفینة، تلك السفینة التي حوت داخلھا أصنافًا من البشر جلھم یبحث عن شيء واحد قد یجده وربما یقضي ما بقي من عمره یبحث عنه، لذلك لا یرى غضاضة في بعض ما یقوم به، إنما المھم ھو بلوغ الھدف الذي یخاف أن یخطفه منه الآخرین.

أنهىى قھوته وضغط بكل ثقة وعزیمة على إزرار أطفاء ذلك المارد الذي غیر مجرى حیاته وحیاة الكثیرین من الناس، وقرر أن یأخذ إجازة طویلة من ھذا الذي یحمله كل وقت في جیبه وینام بجانبه وأول ما یفتح عینه یتلمس مكانه لیرى ھل من جدید، ھذا الذي جعله یرى كل الناس ملائكة، وكل الناس شیاطین، وكل الناس مصلحین، وكل الناس مجرمین فیعیش حالة غیر متوازنة من الخوف والأمل والرغبة والإمتناع فیحلم بأنه سیقابلھم في الحیاة العامة كما يراھم في ھذا المارد الصغیر الكبیر ، ولكن عندما یدخل في معترك الحیاة یجد إختلافًا كبیرًا عما یراه في شاشة ذلك الصغیر، ربما تستمر الإجازة ولكن بالتأكید متطلبات الحیاة ستعیده إلیه رغمًا عنه.

 

عبدالعزيز بن مبروك الصحفي

مقالات سابقة للكاتب

2 تعليق على “المارد الصغیر

فهد أحمد شعران

مقال يفتح افاق وتسائلات في العقل الباطن
لما اصبحنا منافقين ؟ للحصول على على محبة الناس. ونحن ندرك ان الصراحه قد تكون مؤلمه للبعض ولكن لا يصح الا الصحيح لذلك يفضل ان نكون صادقين مع انفسنا قبل ان نكون صادقين مع الناس .

عبدالعزيز بن مبروك الصحفي

الأستاذ فهد أحمد شعران
رائع جدًا ما أضفته في مداخلتك بارك الله فيك ورعاك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *