یقول الله سبحانھ وتعالى:
(أَنَّھُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَھَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّھُ غَفُورٌ رَحِیمٌ) ٥٤ الأنعام
(إِنَّا عَرَضْنَا الأَْمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَیْنَ أَنْ یَحْمِلْنَھَا وَأَشْفَقْنَ مِنْھَا وَحَمَلَھَا الإِْنْسَانُ إِنَّھُ كَانَ ظَلُومًا جَھُولاً) الأحزاب: .72
والجھل قسمان، أحدھما فعل الشيء الخطأ عمدًا مع معرفة الصح، مع العلم التام بأن ما فعله خطأ، ویُطلق علیه جھالة، والآخر ھو فعل الخطأ من غیر معرفة بأنه خطأ وفي نفس الوقت عدم معرفة الصح ویطلق جُھل.
وكلاھما له علاج، الأول علاجه بحسن الخلق والتأدب مع الله ثم مع الناس وإجتناب ما نُھي عنه شرعًا وقانونًا وعُرفًا، والثاني بالتعلم المستمر والإطلاع الواعي من المصادر الصحیحة واستشارة أھل العلم والمعرفة كل في مجاله.
في كتابه (الإنسان ذلك المجھول) الذي نُشر في عام 1935م؛ یلخص ألیكسیس كارل حیاة الإنسان العامة بأن الإنسان سمح لنفسه أن یدرس أكثر الأشیاء الجمادیة التي حوله وسعى لفھمھا والتطوير فیھا حسب معتقداته وعلمه وفھمه حین دراستھا، ولكنه للأسف لم یتعمق في فھم نفسه والأشیاء الحیاتیة حوله، ولھذا فإن الإنسان سوف یضر نفسه من حیث لا یعلم .
وبالنظر إلى ما قاله ألیكسیس كارل نجد أن فیه كثیر من الحقائق التي ظھرت مع مرور الوقت، فنحن ننظر الآن إلى حیاتنا كیف كانت وكیف أصبحت، فنجد أن ھناك تطورًا رائعًا وھائلاً وسریعًا في التقنیة والعلوم في شتى المجالات ومعھا تطورت الوسائل التي یعتمد علیھا الإنسان في حیاته من وسائل مواصلات كالطائرات والسفن والقطارات والسیارات، وكذلك تطورت وسائل الكتابة والقراءة والحفظ لما یُكتب، وتطورت وسائل التواصل سواءً البریدیة المكتوبة أو الصوتیه المرسلة عبر الوسائط المتعددة، وتطورت كذلك وسائل النقل بشتى أنواعه.
وعندما ننظر إلى ھذا الكم الھائل من التطور المادي نجد أنه في المقابل ھناك إنحدارًا في المعرفة الإنسانیة وكذلك في معرفة الإنسان لنفسه ولھذا أضر الإنسان نفسه جسدیًا، ونفسیًا، وإجتماعیًا، فمن حیث الصحة، فإنھا تدھورت وكثرت الأمراض بسبب التدھور في الإنتاج الزراعي من حیث الكیفیة ولیس من حیث الكمیة، فھناك الإستخدام الغیر مقنن للمبیدات الحشریة ومخصبات التربة ومُسرعات نمو النباتات، والدواجن، والأنعام حجمًا وشكلاً، وكذلك الوسائل المستخدمة في إختصار الوقت في النمو للوصول إلى النضج أو حجم البیع، فأصبح التعامل معھا مضرًا بالصحة سواءً كان ذلك من جانب العمال المنتجین أو من جانب المستھلكین ، وھناك أیضًا المحسنات في صناعة الغذاء من نكھات وألوان وروائح مما یضر بصحة الإنسان، ومن حیث الصحة النفسیة نرى ونسمع أنه كثرت الأمراض النفسیة والإكتئابات والإحباطات والضغوط.
ومع علمنا بھذا الأمر إلا أننا نتجاھل ذلك فنتناول الكثیر من الأطعمة دون إنتباه إلى مصدرھا أو مكوناتھا أوحتى طریقة حفظھا وتخزینھا، وقد یمتد الأمر إلى تناول أشیاء
أخرى أكثر ضررًا منھا، وحیث أن كل ما یدخل في جوف الإنسان یؤثر على بناء جسمه وربما یؤثر كذلك على عقله على المدى القصیر أو الطویل، لذا فإن الضرر الحاصل له
كبیر.
ومع كل ھذا التطور في الأشیاء المحیطة بالإنسان نجد بأن ھناك إنحدار شدید في الكثیر من القیم وتدھور في الكثیر من الأخلاقیات وضعف في الصلات الإنسانیة بین الناس وغلب على العلاقات المصالح، فأصبح التنافس یغلب علیه طابع المنفعة الخاصة أكثر من السعي لمنفعة النفس والآخرین والمجتمع.
ومع ھذا التطور الھائل في كل شيء وسھولة الحصول على المعلومة، أصبح معظم الناس علماء، ومصلحین، ومستشارین ومھنیین وأحیانًا أطباء ومھندسین، مُعْتَمِدین على ما یتلقفونه من الرسائل التي تدور في وسائل التواصل أو على ما یجدونه في الشبكة العنكبوتیة من غیر أن یكلفوا أنفسھم عناء البحث والتأكد من صحته أو قراءة كتب قیمة وعلمیة أو السعي لتنمیة معارفھم من خلال الدراسة.
نجد ھنا أن ألیكسیس كارل دق جرس الإنذار ھذا قبل أكثر من ثلاثة أرباع القرن، وحیث أن القرآن الكریم فیه الكثیر من الآیات التي تدعو الإنسان للحرص على طِیب
المطعم والمشرب والملبس وكذلك طِیب القول والعمل فإن الكثیرین یتجاھلون ذلك وكأنھم لا یعرفونه.
ھا أنا أدق الجرس الآن في دعوة للسعي للحفاظ على النفس وكسب المعرفة بشتى الوسائل الصحیحة المتاحة، فإن من فاته التعلیم في سن مبكر عندما كان صغیرًا یجھل مصلحته أو لأي سبب آخر، فمن الأولى أن یدركه الآن وھو عاقل، بالغ، واعي یعرف مصلحته حقًا، أنا
أدق ھذا الجرس لیتنبه من أخذته مشاغل الحیاة فنسي نفسه حتى أتسعت الفجوة المعرفیة والفكریة بینه وبین أبنائه أو رؤسائه أو مرؤوسیه ، فإن الوقت لازال متاحًا طالما أن الإنسان قادرًا على العطاء بصرف النظر عن أي أعذار أخرى.
لقد كتبت سابقًا مقالاً في ھذه الصحیفة الغالیة بعنوان (عندما تشرق الشمس)، طرقت فیه جرس إنذار، یمكن الرجوع إلیه .. أسأل الله التوفیق لي ولكم.
عبدالعزيز بن مبروك الصحفي
مقالات سابقة للكاتب