التركيز المستمر يعني التدفق المنتظم وغير المتقطع للفكر، وهو نتاج الصبر والمثابرة وحسن السيطرة.
إلَّا أنه كثيراً ما يُساء فهم التركيز، فيعتقد الناس أن هناك شغل، أو جهد مرتبط بعملية التركيز، بينما ما يلزم هو عكس ذلك تماماً.
فعظمه الممثل تكمن في حقيقة أنه ينسى نفسه عندما يمثل شخصية ما، ويصبح مرتبطاً بها بشكل عميق بحيث أن المشاهدين يرون هذا التمثيل وكأنه حقيقة.
هذا المثال يعطيك صورة صحيحة عن التركيز الحقيقي، فيجب أن تكون مهتماً بفكرتك ومستغرقاً فيها بحيث لا تكون واعياً لأي شيء آخر.
هذا الانهماك يتطلب معرفةً عميقة لإجابات أسئلة السببية للاستفهامات الكبرى بالحياة.
إنَّ كل المعرفة هي نتيجة لتركيز من هذا النوع، وبهذا الأسلوب يصبح العقل مغناطيسياً يجذب المعرفة عبر الرغبة فيها؛ فتنجذب نحوه دون أي مقاومة وتصبح ملكاً له.
فالرغبة الحقيقية ما هي إلا رغبة لا شعورية.
والرغبة اللاشعورية تثير القوى الخفية في العقل، بحيث تبدو المشاكل المستعصية وكأنها تحل نفسها بنفسها.
إنَّ حقيقتك الروحية هي الجزء الذي يُمكْنُك -بعد إرادة الله تعالى- من أن ترتقي بغاياتك، وأنْ تُحوُّل أنماط تفكيرك إلى مركباتٍ فعالة في شخصيتك.
ويكمن هذا الارتقاء في الاتصال بالخالق عزَّ وجل في السراء والضراء.
هذا الاتصال الذي يملأ تجاويف الروح عبر أوعية الاستغفار والتضرع لله تعالى.
صحيح أنه غالباً ما تأخذ الفكرة صاحبها في اتجاهات تسلسلية نحو الخارج،ولكن يمكنه تحويلها نحو الداخل بحيث توصلك إلى المعنى الحقيقي للأشياء وأحداث الحياة،إلى جوهر الأشياء وروحها.
فعندما تدرك جوهر الأشياء؛ يصبح من الأيسر عليك فهم الأمور والسيطرة عليها.
وما نمر به ويمر غيرنا به من حالة الهلع من جراء تفشي وباء كورونا، إلَّا أنه يُعدُّ حالة أنموذجية للوصول إلى حالة الإدراك تلك.
فهذا الوباء قدرٌ قد قدره الله تعالى علينا، وليس في وسعنا إلا أن نتعامل معه وفق اتجاهين لا ثالث لهما:
الأول، لزوم الاستغفار وحسنُ التوكل على الله، واليقين العميق بلطف الله ورحمته.
فثمة لطفٌ خفي في كل أقدارنا، لا يدركه المرء، إما لجهله، أو قصور فهمه،أو لقلة حيلة عقله.
فيقف على ظاهر تلك الأقدار، وتقصُر به العجلةُ دون قراءة وتمحيص الرسائل الواردة عبرها.
لكنه عندما يركز على الغاية الأسمى من وجوده؛ يبدأ في أولى خطوات التبصر والحكمة.
هذه هي البذرة الأساسية لمبدأ الحياة الذي ينطلق ويُفعّل تلك الأسباب التي توجه وتحضر العلاقة اللازمة، والتي في نهاية المطاف تظهر وتتشكل في الواقع.
الثاني، استنفارٌ على كافة الأصعدة وبذل الأسباب كلها، وتسخير كل الأدوات الممكنة لتجاوز هذه المحنة العظيمة مع اليقين التام بأنَّ هناك ثمة نورٍ وبارقة أملٍ تلوح في الأفق من بعيد.
ونحن إذْ تتشكل تجربتنا بين حالتي الاستغفار والاستنفار، علينا أن نعيد قراءة “لا إفراط ولا تفريط”
هذه القراءة الجديدة تجعلنا نكون أكثر عدلاً وقسطاً بين الحالتين،فلا نجور على إحداهما دون الأخرى.
فليس معنى الاستغفار والدعاء أن نركن لهما دون يقينٍ بهما، ودون بذل أسبابٍ تُعين على تحقيق المراد والوصول إلى المُبتَغى.
في المقابل ليس معنى الاستنفار أنَّ حشدنا لقوتنا وكل إمكانياتنا وحده سيحقق ما نريد، بل أنَّ هناك ثمة اختبارٍ بهذا الوباء، هو أنه يُسِّر لك الأسباب لتعمل بها لا أن تستغني بها عن خالقك الجبار.
هذه القراءة الواعية من شأنها أنْ تجعل نهر تركيزنا دوماً يصبُّ معاً في بحرين عظيمين هما:
الاستغفار والاستنفار.
سليمان مسلم البلادي
مستشار الوعي الإنساني
solimanalbiladi@
الحلقات السابقة من روشتة وعي