بين ذهنيتين

تطور الذهن البشري في البحث عن الخطر، ويقوم بذلك بما لا يتناسب مع حجم ذلك الخطر.
وقد يبدو ذلك منطقياً من وجهة نظر البقاء على قيد الحياة. فإذا استهترنا بأمرٍ ينطوي على مخاطرةٍ؛ يمكن أن يتسبب ذلك التهاون إلى التعرض إلى مخاطرةٍ لا تحمد عقباها.
لكن من ناحية أخرى، إذا فوُّتنا تجربةً سارّةً كشروق الشمس مثلاً، لا يكون ذلك بالأمر الجلل من وجهة نظر البقاء على قيد الحياة، ولن يقتلنا عدم اختبار مثل هذه التجارب السارّة.

••••••••••••••••

إنَّ أولئك من أسلافنا الذين رصدوا تهديداتٍ خطيرة نحو بقائهم على قيد الحياة أكثر احتمالاً؛ لأن يُمرروا موروثاتهم إلى ذريتهم.
وقد يكون لهم عذرهم، فقد يكون أولئك الذين توقّفوا لشمّ رائحة الأزهار على الشجيرات المُسيّجة -دون رؤية الحيوان القابع هناك- استمتعوا بالإحساس اللحظي السارّ، ولكن ربما سرعان ما تحوّل ذلك إلى ألمٍ،وربما إلى فناء.
هذه التركيبة من النشأة -التي تُحرّض على التناغم مع المخيف أكثر من المطمئن، التركيز على المنغصات بدلاً من المباهج، الانحياز إلى الأمور غير السارّة بدلاً من السارّة -تجعل أذهاننا مُنجذبة نحو احتمالية الخطر على الرغم من عدم وجود تهديد وشيك في معظم الأحيان.
ولعل هذا الانجذاب له مسببات من أهمها، التحيُّز نحو السلبية مع البقاء على قيد الحياة، وليس مع بهجة الحياة وسعادتها.
فالذهن التلقائي الذي يُمسكُ بزمام أمور حياتنا يتصرف استناداً إلى التجربة المريرة التي مررنا بها أكثر من تماهيه مع لحظاتنا السعيدة.
ولعلنا نلحظ هذا الأمر جلياً حين يتم إغواءنا عن طريق نشرات الأخبار التي تُذكّرنا وتجذبنا نحو كافة الأمور السيئة التي تحدث في العالم.
في حين نجد أنفسنا نزهد في التماهي مع حالات الفرح التي نمر بها.
ولذلك لا عجب أننا نرى كائنات بشرية تسير وقد أثقلتْ كواهلها بأحمالٍ ينوء بها أولوا القوة، وغطتْ معالم إنسانيتهم سحائبٌ من دخانٍ كثيف؛ فهم لا يَرون ولا يُرَون بهجة الحياة، وكأن معظم كؤوسهم أكثر من نصف فارغة.
وهذا يذكرنا بالعبارة التي جاءت على لسان إحدى الشخصيات في رواية توماس ديكسون:
“أنا الآن رجلٌ مُسنّ. لقد مررت بكثيرٍ من المتاعب، ومعظمها لم يحدث على الإطلاق”
فأولئك المثقلون لو أنهم ذهبوا إلى حكيم قريتهم؛ لدلّهم إلى كيفية الخلاص من هذا الداء الذي استوطن أرواحهم.
هذا الخلاص يكمن في اليقين العميق بلطف الخالق سبحانه، ورحمته التي وسعتْ كل شيء، ثم الوصول إلى محطة لحظة اليقظة الروحية التي تتم عبر الانتباه وتفكيك كينونة ما يسمى بذهنية التحيُّز.
ففي داخل كل واحد منا ذهنيتين للعيْش في الحياة، (ذهنية التوجس من خطرٍ ما، وذهنية الاستمتاع باللحظة التي نعيشها) وأيهما غذّاها نمتْ داخله وجرتْ في دمه.

سليمان مُسلِم البلادي
مستشار الوعي الإنساني
solimanalbiladi@

الحلقات السابقة من روشتة وعي

تعليق واحد على “بين ذهنيتين

أم بيادر

والله كلام في قمة الروعة
صحيح كل ما ذكرت
وأنا أحد ضحايا ذلك التفكير السلبي
الله يعطيك الصحة والعافية
إبداع في الفكر والطرح
كاتب متميز جداً زادك الله من فضله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *