الأزمنة الثلاثة!

“الحياة سريعة” برمجة تبنّاها الكثير حتى سكنتْ واستقرت في الوعي الجمعي.
بينما الحياة في الواقع تسير بشكل متوازن.
وما يجعلنا نشعر بأنها سريعة ولحظاتها تكاد تتفلّتُ من بين أيدينا، هو أننا نكون في اللحظة الراهنة وأيدينا تكاد تتلهف للإمساك بأغصان شجرة المستقبل التي لم تبلغ أشدُّها بعد.
هذا اللهث المتلاحق وهذا الركض المتواصل دون تريث تقوده حكمةٌ صائبة، أو تأنٍ يعضده عقلٌ رشيد.
ولذلك نحتاج في هذه الحياة إلى ذلك الكرسي المسحوب من مسرح الأحداث؛ لنراقب من فوقه الأزمنة التي تدور رحاها، ويعلو غبار وقْعها إلى سماءٍ نسينا أن نمدَّ إليها أبصارنا.
إننا إنْ فعلنا ذلك؛ وجدنا أنَّ تلك الأزمنة تُرَاوح خُطاها بين ثلاثةٍ من الغداة والآصال.
فذلك الماضي الذي يسكن وجداننا، وهذا الحاضر الذي زهدنا فيه بكامل إرادتنا، وذاك المستقبل الذي ترقبه القلوب ولم تبلغه بعد.
ثمةَ وجدٍّ يضرب بأطنابه في صحراء أرواحنا، وحزن مقيم يغرس أنيابه في جسد أيامنا؛ فيُحيلها إلى أشلاءٍ ممزقة.
وهذا التوجُّد على الماضي والتباكي على أيامه يُشَكّل الظاهرة الأبرز في مسرح أحداث حياتنا، ولكن لأننا نقوم بالدور؛ فلا نشعر بفداحة ما نقوم بتمثيله.
هذا الانسكاب الحزين -الذي يتكوُّر في قارورة البكاء على الزمن الماضي والتوجد عليه- يبني مع الوقت حواجز عالية البنيان وقيوداً لا نستطيع الانفكاك منها؛ تُعيقنا من الانطلاق لحياةٍ ذات بهجةٍ وسعادة.
ثاني هذه الأزمنة هو اللحظة الحاضرة العامرة بكل تفاصيلها، وبكل مباهجها، لكن مع كل هذه الفتنة والزينة التي تتوشّح بها، نجد أنفسنا نزهد فيها، ونصعّر لها صفحة وجوهنا، ولا نكاد من فرط صدنا عنها لا نتذكر ملامح فتنتها.
كل ذلك طمعاً في فاتناتٍ يسكنّْ كوكب المستقبل.
وثالث هذه الأزمنة هو المستقبل، ذلك الكوكب الذي تصله رحلات الفضاء، ولم يتمكن الإنسان الحديث من اكتشافه، وكل ما قيل عنه مجرد اجتهاد لا يمت للبحث العلمي الرصين بصلة.
إنَّ الحيرة التي تُصيب الإنسان في المزاوجة بين تلك الأزمنة الثلاثة تأخذ منه حيزاً كبيراً ومساحةً ذهنية من شأنها أن تؤدي به إلى شيءٍ من التخاطف والتقاذف؛ فيغدو ككرةٍ يتقاذفها صبيان الحي فيما بينهم.
فتارةً يطلق العنان لعاطفة ذكرياته متلهفاً عليها، واصفاً أيامها بأنها الأجمل ولن يجود الزمن بمثلها.
وتارةً نجد ذلك الإنسان يريد أن يمسك بتلاليب حاضره، لكن شدة فضوله بما يُخبأ المستقبل؛يجعل تلك القبضتين الممسكتين باللحظة الحاضرة يصيبها الوهن والضعف؛ فتخر قواها، وتضعف شدة وثاقها.
فلا هو أمسك بها، ولا هو تمكن من اللحاق بلحظةٍ مسافرة عبر فضاء بزمنٍ افتراضي.
ولذلك فإنَّ من الرشد والحكمة أن يعي الإنسان أنه لا زمن فعلي غير اللحظة الحاضرة التي يعيشها.
هذا الوعي إنْ سكن قلبه؛ كان له خيراً مما كانوا يزعمون.
فالماضي بكل ما فيه ذهب وانقضى، ولن نرجع إليه،ولن يعود إلينا.
والمستقبل في علم الغيب،ولن نتمكن من الذهاب إليه،ولن يأتي إلينا.
فهو في المكان القصي الذي لا نعلمه.
وما نعلمه هو اللحظة الحاضرة التي نعيشها.
فعلينا إدراكها وإعمال نفوسنا على الانتفاع بها بما يعود علينا وعلى من حولنا بالخير والنفع.

سليمان مُسلِم البلادي
مستشار الوعي الإنساني
solimanalbiladi@

الحلقات السابقة من روشتة وعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *