الرسالة الخامسة عشر
قبل سفري إلى أمريكا ، كنت أظن بأن الدراسة في أمريكا نوع من ضروب الخيال والصعوبة خاصة لمن لا يتقن اللغة الإنجليزية ، وكنت أظن أن إتقان اللغة الإنجليزية في حد ذاتها معجزة من المعجزات ، وإنما بعد مرور الشهر الأول في معهد اللغة وخروجي من دائرة الإنبهار والإحراج ، الإنبهار من كل ما هو حولي بدءً من المحافظة على النظافة في الأماكن العامة ، وإحترام الممتلكات العامة التي هي من حق الشعب أن يستمتع بها ، وتطبيق أغلب الناس للنظام وإحترامه ليس دائماً لحسن خلق أو إلتزام بدين وإنما كما عرفت من الذين سبقوني بأن النظام قوي وتطبيقه على المخالفين صارم وتبعات مخالفتة تؤثر على مستقبل المخالف ، فمثلاً مخالفة قواعد المرور مثل السرعة الزائدة أو تخطي الإشارات الحمراء أو الوقوف في الأماكن المخصصة لذوي الإحتياجات الخاصة تجر على المخالف ليس دفع المخالفة فقط وإنما إضافة نقاط على سجله وذلك يؤدي إلى إرتفاع التأمين ، وتعليق الرخصة إذا زاد عدد النقاط عن حد معين ، وربما أدى إلى تدني مصداقيته في سداد الديون أو ما يسمونه (Credit Record) كريدت ريكورد أو (Credit History) كريديت هيستوري والتي تؤثر على شرائه أي شيء بالتقسيط ، أوالحصول على وظيفه ، وهكذا.
وأما الإحراج الذي تخلصت منه ، فهو وقوفي أمام طلاب الفصل والتحدث وهو الذي لم أتعود عليه كثيرًا وخاصة باللغة الإنجليزية …. المهم مر الشهر الأول والثاني والثالث وبدأت الإستعداد لأول إختبار نهائي للصعود إلى المستوى التالي …. كنت أقضي الساعات الطوال في مكتبة الجامعة وألحقها بمثلها في البيت ، نسيت كل الخطط التي كنت أعددتها للتنزهه والسياحة ، والتزمت بنصيحة أحد الأخوة الذين سبقوني حيث أوصاني بتأجيل كل السفريات السياحية أو التنزه داخل المدينة التي أنا بها حتى أتقن اللغة الإنجليزية وأتاقلم مع الحياة هنا ، لأنني إن قمت بها في أول قدومي سأنبهر بكل شيء ولن أتمكن من إستعياب كل ما أراه أو أستمتع به كمن تعود على الحياة وبدأ يعطي معاني أخرى لكل ما يرى بحيث ينظر إليه من جانبين حسن وغير حسن فيأخذ الحسن ويرفض ما عداه … ولهذا أجلت كل شيء وركزت على الدراسة فقط … وأحمد الله أنني فعلت ذلك .
أصبح جدولي اليومي الذهاب مع منصور إلى المعهد صباحاً وأحيانا يغادر منصور وأبقى أنا في مكتبة الجامعة حتى السادسة مساءً أراجع بعض ما أخذته وأمارس لغتي مع بعض المدرسين والطلبة الذين يعملون في المكتبة لمساعدة أمثالي من الطلاب .. وأرجع إلى البيت مستخدمًا المواصلات العامة … عندما أصل إلى البيت أبدأ بقراءة ما سوف أدرسة في اليوم التالي وربما يأخذ مني أحياناً ساعة أو ساعتين … خلال الثلاثة الأشهر الأولى أكتسبت العديد من العادات التي كنت أفتقدها على الرغم من أهميتها مثل التخطيط والإلتزام ببرنامجي ، النوم مبكرًا والإستيقاظ مبكرًا إلا في أيام نهاية الأسبوع … وكذلك تعلمت الإعتماد على نفسي في كل شيء ، مثل شراء ملابسي ، غسلها ، وكيها ، والطبخ والغسيل وغيرها من الأشياء التي من المفترض أن يعتمد الإنسان فيها على نفسه عملًا بقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( أخشوشنوا فإن النعم لا تدوم ) … خلاصة القول أنني تعلمت الكثير من الأشياء الكثيرة النافعة ، ليس لأن التعليم في بلدي لا يعطيني كل هذا ، وإنما لأنني كنت أحيانًا أتساهل في أخذ كل ما أتعلمه على محمل الجد قائلاً لنفسي أحياناً وما فائدة ذلك في الحياة العامة ، وهذا كان خطأ مني مع العلم أنني أتاسف كثيرًا على تلك الأيام الجميلة التي لم أستفد منها … وأنصحك بأن تعطي كل شيء تتعلمه ثلاث مراحل مهمة جدًا .. المرحلة الأولى أن تفهمه … والمرحلة الثانية أن تطبقه وتعمل به … والمرحلة الثالثة أن تُعلمه شخصًا آخر من أهلك أو أصدقاءك .. عملًا
بقوله صلى الله عليه وسلم ( بلغوا عني لو آية ، فربما مُبلغ أوعى من سامع ) ، والذي يُستفاد من هذا الحديث أشياء كثيرة منها أن تعليم الآخرين فيه فائدة للمُبلغ وللسامع … فالمُبلغ يعمل به وربما يستفيد منه أكثر من السامع لإختلاف طرق تفكير الناس وفهمهم ، والسامع يكتسب أجر التعليم ورسوخ العلم في ذهنه لتكراره وفي ذلك غاية المنفعة للفرد والمجتمع.
أشعر بأني أطلت عليك في هذه الرسالة ، لذلك أقول لك إلى لقاء في رسالة قادمة إن شاء الله.
أخوكم
عبدالعزيز مبروك عتيق الصحفي