في السنوات الأخيرة تنبه علماء النفس إلى ظاهرة تعرف بـ “التطور الإيجابي التالي للصدمة”.
وقد تمت صياغة هذا المصطلح في بادئ الأمر من قبل عالمي النفس ريتشارد تيديسكي ولورينس كالهون اللذين أجريا مقابلات مع الكثير من الناس الذين عانوا أحداث صادمة في حياتهم مثل فجيعة أو مرض خطير “كالسرطان”، حريق المنزل، النزاعات ومن ثم تحولهم إلى مشردين.
لقد وجد العالمان أن تعامل كثيرين من هؤلاء مع هذه الصدمة كان محفزاً قوياً للتطور الشخصي،ولم تكن مجرد مسألة تعلم كيفية التأقلم أو التكيف مع المواقف السلبية،وإنما نيلهم بعض الفوائد المهمة منها فعلياً.
فلقد اكتسبوا قوة داخلية جديدة واكتشفوا مهارات وقدرات لم يكونوا يعلمون أنهم يتمتعون بها أبداً.
لقد أصبحوا أكثر ثقة بأنفسهم وأكثر تقديراً للحياة، وخصوصاً ” الأمور الصغيرة” التي طالما اعتبروها أمرا مفروغاً منه، وأصبحوا أكثر تعاطفاً مع معاناة الاخرين.
كان أحد أكثر التغيرات شيوعاً هو أنهم قاموا بتطوير مواقف أكثر فلسفة وروحية تجاه الحياة؛فأصبحت الأسئلة حول معنى الحياة أو غايتها أكثر إلحاحاً بالنسبة إليهم.
فقد قادت المعاناة أولئك الناس معاناتهم إلى مستوى أعمق من الإدراك.
ولا ريب أن الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه لم يكن غريباً أبداً عن المعاناة،فقد عانى معظم حياته من الصداع النصفي الشديد الذي تركه عاجزاً لأيام،بالإضافة إلى آلام معدة رهيبة،وقد أُجبر على التقاعد من التدريس في الجامعة في سن الخامسة والثلاثين نظراً لصحته المعتلة وأمضى بقية حياته في عزلة.
غير أنه كان لدى نيتشه مقدرات مذهلة على المرونة،واعتقد على الدوام أن معاناته كانت مفيدة له.
فلقد كان يؤمن بأنه مدين للسنوات الأصعب من “حياته” أكثر منه للسنوات الباقية،إذ منحه مرضه نوعاً أسمى من الصحة،صحةً من النوع الذي يزداد قوة تحت وطأة كل ما يعجز عن قتلها.
ورأي معاناته بوصفها “المحرر المطلق للروح”،الأمر الذي كان لازماً من أجل فلسفته،فهي والكلام لنيتشه:
” تجبرنا نحن الفلاسفة على النزول إلى أعمق أعماقنا،أشكُ في أن معاناة كهذه تجعل الإنسان أفضل،ولكني أعلم أنها تجعله أعمق”.
تتلخص تجربته في أنه عندما يخرج المرء من حلقات المرض،العزلة أو الإذلال فإنه يعود وكأنه ولد من جديد،وفي حلة جديدة،وقد بات أبرع في تذوق البهجة،والبراءة التي تغمرها السعادة،إذ يصبح أكثر طفوليةً،وأكثر حنكةً مما كان عليه بمئات المرات.
وفي كتاب “النبي” يشيرُ جبران خليل جبران إلى نقطة مماثلة عندما يكتب أنه “كلما حفر ذلك الأسى أعمق في كينونتك؛زادت البهجة التي تستطيع احتواءها”.
ويمكن أن يحدث هذا الشيء على المستوى الاجتماعي،إذ غالباً ما تخلق الأزمات روح التكاتف في المجتمعات.
إذْ يتساعد الغرباء ويتعاطفون مع بعضهم البعض وبذلك يصبحون متماسكين،وتساهم معاناتهم المشتركة في كسر عوامل انفصالهم فينتقل المجتمع بأسره إلى مستوى مختلف؛حيث يصبح كياناً جمّعياً حقيقياً بدلاً من مجموعة من الأفراد.
ففي المملكة المتحدة على سبيل المثال، لا زال الناس يتحدثون عن” الروح المعنوية أثناء الغارات الألمانية” أو “الروح القتالية”،ليس فقط لأنه زمن كان فيه الناس شجعاناً،بل لأنهم عملوا معاً دون أنانية وعلى نحو إيثاري.
سليمان مُسلِم البلادي
solimanalbiladi@
الحلقات السابقة من روشتة وعي