ذات العشرة عقود

فلان بن فلان عاش بطول الحياة وعرضها —كما يقال — كان طفلاً مدللا ثم فتى جسوراً ، فشابا ملأ الحياة فرحا و سرور ا، قيل له تلك السعادة في القمة فحُث قدمك و تسلق ، فما كان منه إلا أن توكل على بارئه وشمر ساعديه واتكأ على عصاه فتسلق دنياه وبنى طموحة على صخر الجبال ، فلما اشتد ساعده وقوت شكيمته ،أرسى سفنه في بيت عمدانه من الخيزران والبان فرزق بأشبال كالأسود لكن نفسه تاقت للورود فأكثر من السجود حتى ينال المقصود لم يعلم بأنها ستكون سعادته و تكون ابتلاءه فلقد رُزق بوردة لكنها ذبلت قبل أن تنضج ، طفلة جميلة لكنها من ذوي الاحتياجات الخاصة — أو ما يعرف بمتلازمة داون — فحمد الله وقال وردتي كُتب لي أن استنشق عطرها وحدي ولا يشاركني فيها أحد نظر يمناه و يسراه واحتقر كنزه الذي بين يديه فهو لا يستطيع  جلب الشفاء ، عاش سبع سنوات وقلبه على جناح طائر كل صباح يحلق معه لبساتين السعادة فبسمتها تجفف عناء تعبه وبفطرتها تسقيه سهولة دنياه … لكن هي ابتلاء أيضا.

ففي يوم أتاه ابنه الكبير قائلا : لابد أن تتعلم هذه الوردة لين الحياة و قسوتها لابد من فراقها لك سويعات حتى يصلب عودها وترى مجدها ، وبعد تفكير عميق وضيق لحال قادم مجهول وإصرارا من الأسرة وافق وشرع في إكمال أوراق التسجيل وهو يجر قدما ويثني أخرى ، وفي ليلة و ضحاها ارتدت ثوب سعادتها وحزنها ثم خطت خطواتها تشق طريقها للعالم المجهول، كانت في رهبة من المجتمع الجديد وفي معزل بعيد لكن مُدت لها الأيدي حتى غاصت في معتركات الحياة فذابت في تلك المياه، ويوما بعد يوم كانت تأتي بالحكايات والروايات، وقصة هذا و ذاك و، الوالد الحنون يسجل ما تقول كذكرى لها فلربما في يوم تقرأ ما سجل.

حتى أتى ذلك اليوم الذي وقفت بطولها الممشوق وحزنها المبتور فعرف المقصود ، نظر فإذا غصن البان بعد ما مال وزان، فإذا بها قد تكسرت ثم انثنت وتمتمت وبعبارات مخنوقة قالت: هل أنا معاقة؟ لما يضحكون على أفعالي، ويغرسون شوكا بفؤادي؟ هل أثقلت جانبك؟ كل هذه التساؤلات كانت خناجر الكلامية تقع هدت ذلك الهزبر الجريح هزاً، وألجمته إلجاماً ، ثم التفت إلى أخوتها: لستم كأبي حبه سار بدمي وظله اكتنف ظلي لأجل ذاك سأرتحل فما عدت للحياة بمكترثة لقد مضت عشر سنين من عمري وأنا أسمع عبارات التشهير والتجريح، ونظرات الشفقة ، أخذوا لعبتي ورموا دميتي، يقولون عني: هي لا تعي! وتقول أمي لا تلمسي ،صرت جرثومة الكل منها يتقي ، يا أخوتي مِلء الحياة تكدرت سيرتي
وعلني في رحيلي أُرجع الحياة لمسكني.

نظرت إليه فنظر إليها نظرة المحتار المتفكر فسأل:
من أنت يا بنيه؟ ومن أنا يا ترى؟
ثم سار وفتح الأبواب وسأل الجيران: من أكون؟ وما هذه الحدود؟
قالوا له أنت فلان بن فلان! لكنه أجاب: لكنني لا أعلم لا أعرف من أنا!
كل ما أعرفه أنني لم أكن الجدار الذي يستر وردته، ولم أكن الحصن الذي يحمي براءتها، هاتوا لي وردتي وخذوا كل ملذاتي، دعوها تعيش ، ما شأنكم؟ لم تكن نقطة سوداء في أوراقكم ، لقد اخرجت ما خبأتموه من سوء أخلاقكم! ما ذنبها إن خلقت هكذا؟ وكُتب في قدرها أن تعيش بلا قيود ولا حدود ؟ هي مطري فلا تبنوا لها سدود هي موطني وليس له حدود هي طفلتي ذات العشرة عقود.

 

فاطمة بنت عبدالحميد المغربي

مقالات سابقة للكاتب

تعليق واحد على “ذات العشرة عقود

سعيد عناية الله الصحفي

سلمت الانامل، وسلم الحرف، الذي بنى المقال بناءً لامس الإحساس وخاطب الوجدان تجاه هذه الفئة التى تستحق كل يوم كلمة، وكل يوم وردة وابتسامة.
الذي لفت انتباهي واعجابي في المقال أن الكاتبة استخدمت مع قواعد الصياغة العلمية للمقال عناصر تستخدم عادة لبناء القصائد كالتشبيه والكناية والاستعارة والصورة والخيال.
وعبرت عن الفكرة والمحتوى بهذا الاسلوب الأدبي الرائع، هكذا نريد دائما الإبحار في فضاء الإبداع والتألق.
شكراً أستاذة فاطمة.
وفقك الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *