جماليات الوصف والتصوير

في شرفات الحصون (1)

مدخـــل:
كثيراً ما استوقفني (عبدالله ساعد) هذا الشاب/ الأديب/ المبدع في مجال السرد القصصي، فأبتهج بما يصدره من مجموعات قصصية والتي بلغت – فيما أعتقد – (أربعة) مجاميع قبل التي نتداخل معها نقدياً!!

وقد استوقفني في هذه المجموعة الكثير من جماليات العنونة أو العتبات، وبناء الأحداث سردياً واختيارها واقعياً، وتخليق الشخصيات وتأطير حواراتها عبر اللغة والأسلوب، وفضاءات القرية والريف ورمزيتها… وتحريك الساكن وتسكين المتحرك عبر الأزمنة والأمكنة التي تنتمي لها عوالم الحكي وفضاءات السرد. وغير ذلك من الجماليات السردية التي لا تخفى على القارئ الحصيف!!

(2) ولعل أبرز الجماليات التي استوقفتني، ودفعت بالقراءة الناقدة تجاهها هي (تقنية الوصف والتصوير) التي أبدع في رسم ملامحها، وتفتيق أيقوناتها، وامتلاك مهاراتها اللغوية والتشكيلية والفنية.

و(الوصف/ أو التصوير) هو أحد الفنون الخاصة بالاتصال اللغوي، حيث يفترض في القاص/ أي قاص/ أن يمتلك القدرة والمهارة لتصوير المشاهد وتقديم الشخصيات والتعريف بالأماكن والتعبير عن المشاعر والانفعالات باللغة الإبداعية التي توصل المعنى، وتقرب المشاهد عبر المحسنات اللفظية، والأساليب البلاغية، والتصورات الخيالية، وبذلك تصل الرسالة والغاية والمقصدية من القاص إلى القارئ/ المتلقي بكل عذوبة وسلاسة وقابلية مقروئية!!

و(الوصف) – يعتبره كثير من النقاد ودارسي السرد – من أبرز وسائل وجماليات السرد القصصي وأنه يقوم مقام الديكور في العمل المسرحي، والموسيقى الداخلية في النص الشعري الحديث، والوزن والقافية في القصيدة العربية الخليلية!! وهذا يعني أن على السارد/ القاص امتلاك المهارات اللازمة لهذه التقنية من قوة الملاحظة، ودقة التفاصيل، والعمق في التصوير والتمكن اللغوي لاختيار الألفاظ الملائمة والموصلة للمقصد والمراد وذلك عبر التجليات الوصفية من حيث وظائفها وأنواعها سواء أكانت داخلية أو خارجية، موضوعية أو انفعالية، وتوضيحية أو تزيينية، تجميلية أو معلوماتية.

(3) وعبر هذا التأطير النظري، أو التنظير النقدي لتقنية (الوصف) في النص السردي، سنقترب من المجموعة القصصية التي نستضيفها لتفتيق أيقوناتها والوقوف عند بعض النماذج المختارة وإخضاعها للتحليل النقدي والسَّبر المفاهيمي عبر ثلاثة مجالات يتضح فيها الفضاءات التصويرية والوصفية وهي: الأماكن، والشخصيات، والأزمنة.

أولاً: تقنيات وصف المكان:
يقول القاص عبدالله ساعد عن الحصون: “… تتربع على قممها المقابلة حصون تباينت ارتفاعاتها ما بين قصر وطول، مزينة شرفاتها والمداخل بنقوش من حجارة المرو البيضاء، تلوح في واجهاتها كعقود من اللجين”.
ويقول عن الوادي: “بينما الوادي العريض… يموج بالحلال ما بين ماعز وضأن وجمال، وكلاب تنبح بشراسة تذود مع أصحابها عن الماشية المندفعة كالسيل نحو بطن الوادي بغية الارتواء –قبل المبيت – من المجرى المائي العريض الذي يشقه من أعلاه وينسكب فيه متعرجاً حتى يغادره للأودية التي تليه” [قصة شرفات الحصون ص ص 7-10].

في هذين المقتبسين، نلاحظ المكان المنغلق/ الحصن، المكان المفتوح/ الوادي، فالحصون تتربع على القمم الجبلية وتتباين ارتفاعاتها طولاً وقصراً، وشرفاتها تتزين ببياض حجارة المرو التي تشبه الفضة/ اللجين!!
أما الوادي فهو يضم الضأن والماعز والجمال والكلاب التي يرعاها الجد، والمجرى المائي الذي يسيل متعرجاً من أعالي الجبال إلى الأودية التالية، وأفواج الماشية مندفعة قبل المغيب كالسيل لترد الماء بغية الارتواء!!

ومن خلال هذه الوصوف، يتصور القارئ ذلك المكان ويرسمه في خياله عبر هذه اللغة البيانية الدالة على دقة الملاحظة، وروعة التفاصيل والتقاط الصورة المعبرة لتصل إلى المتلقي/ القارئ في صورة تكاملية ترتسم في الذهن والذاكرة ويربطها بما يعرفه عن تلك الأماكن في عقله الواعي أو عقله الباطن فترد الخواطر والذكريات.

ثانياً: تقنيات وصف الشخصيات:

ويقول صاحبنا عن ضيف جاء في ليلة مطيرة: “أظهرت ومضة من ضوء البرق الساطع كائناً بشرياً يرتجف كغصن تجرد من أوراقه. ولف بسرعة وقذف بذاته المنهكة دون انتظار لدعوة، .. الماء ينز من جوانبه وقد بدت لحيته الكثة وهي تقطر بالماء وكأنما ينبع الماء من جذورها ويتفرعها. تقوس قرب الموقد وأخذ يمد يديه ويفرد راحتيه باتجاه النار ثم يعيدها باتجاه وجهه وجسده ثم يعيد الكرة ونحن مشدوهين بمنظره المفزع وحضوره المفاجئ” [قصة التميمة ص ص 15-20].

ويقول عن فتاة لعوب وعاشقة “ذات صباح بصر بها صدفة وهي تهم بالصعود إلى سيارة والدها بجسمها الغض الذي يلوح بشغف من تحت العباءة.. عندما أرسلت إليه بنظرة مختلسة من عينيها النجلاوين، نظرة مصحوبة بابتسامة عذبة أشرق بها وجهها البيضاوي وتنم عن رغبة أكيدة في التواصل معه.. وكانت تواظب على سلوكها بمهارة وكيد، فترفع خمارها السميك وترسل له سهام لحظها مع ابتسامة جليةٍ تدوم لثوان معدودة كافية بأن تجعل قلبه الرهيف يستحيل شتاتاً ويحلق خلفها مع الغبار الذي تحدثه عجلاتها المسرعة” [قصة نظرة ص ص 21-24].

ويقول عن أحد أبطال قصصه من الأطفال: “يستيقظ في منتصف الليل على إثر طيف أمه الذي عبر منامه القلق، يقف أمام غرفتها وينساب الضوء عاكساً ظل قامته الصغيرة… يقف أمام خزنة الملابس الخشبية،… ينتفي منها واحداً تحفظه ذاكرته جيداً… يتأمل خيوطه الحريرية الخضراء الداكنة… يدس وجهه الصغير حيث فتحة الصدر يستنشق بعمق من بقية روائحها العالقة في أعطاف القماش….” [قصة تلك الرائحة ص ص 35-36].

ومن خلال هذه التصويرات والأوصاف المقتبسة، نلاحظ أن القاص عبدالله ساعد يتعامل مع أنواع كثيرة من الشخصيات فيهم الرجل، والمرأة، والطفل. ولكل من هذه الشخصيات مواقفها وأوصافها، وأدوارها السردية، فيضفي عليهم من الأوصاف والتصاوير ما يقرب عوالمهم الشخصانية إلى مدارك المتلقي وبذلك يعطينا صورة ذهنية عن الأشخاص بكل تنوعاتهم وأدوارهم الحياتية.

ثالثاً: تقنيات وصف الزمن:
وهنا نجد (الزمن) بكل صوره الماضوية أو الآنية أو المستقبلية، كما نجد (الزمن) بنوعيه الحقيقي، والمتخيل، كما نجد (الزمن) السردي حيث يعمد القاص إلى ما يسمى بالزمن الاستباقي أو الاسترجاعي، والتسريع أو التبطيئ السردي. وكلها (أزمنة) سردية يتعامل معها القاص بوعي مقصود وحرفية فنية عالية.

يقول القاص عبد\الله ساعد: “ذات ليلة اصطادني وعلقت في سنارته، فرح بصيده الثمين… عبرنا منتصف الليل وهو يلوك في فمه الكلام، حدثني عن رفاق الأمس البعيدين…” [قصة البحار ص ص 11-44].
ويقول: “في ساعة متأخرة من الظهيرة طرقوا باب منزلنا خمسة رجال عليهم وعثاء السفر…”.
ويقول: “ذات ضحى رتيب وهي ساهمة تتأمل فيما حولها”.
ويقول: “لثلاثين خريفاً لاحقه ما بين طلوع الشمس وغروبها انتظرته كما تنبأ ولم تيأس..”.
“تصرمت بها السنون وشاخت وذوى جسدها وبصرها كلَّ” [قصة هجر ص ص 45-47].
ويقول: “كانت الفسحة المدرسية على وشك أن تنتهي…” [قصة بسكويت 49-51].

وفي هذه المقتبسات يبدو تعامل القاص مع الزمن في آفاقه المتعددة وعبر لغة مسكونة بالتحديد الزمني الواضح فنجد الليل، ومنتصف الليل، والأمس البعيد، والساعة المتأخرة، والظهيرة، والضحى، والسنون، ووقت الفسحة المدرسية!! مع ما تحمله كل تلك الأزمنة من وصف وتصوير يشي بقدرة القاص على ردم الفجوات السردية بهذه (الأزمنة) القولية، و(الأزمنة) السردية، وأزمنة الخطاب السردي!!

(4) وبعد هذه السياحة النقدية مع أحد العناصر الجمالية في النص السردي الذي أهداه لنا القاص/ المبدع عبدالله ساعد المالكي. يتضح لنا – وللقارئ الكريم – كم هو الوصف والتصوير جمالية مائزة في النص السردي، بل هو أبرز وسائل السرد القصصي وأن له وظيفتان، إحداهما جمالية لغوية، وثانيهما توضيحية تفسيرية ورمزية دالة على معنى معين ومحدد.

كما اتضح لنا – وللقارئ الكريم – أن الوصف والتصوير يأخذ أبعاداً وفضاءات متعددة داخل المتن القصصي، فهناك وصف الزمن أو ما يسمَّى بالوصف الكرونولوجي.
ووصف المكان والشواهد وهو الوصف الطوبوغرافي.
ووصف الشخصيات المعروف ب البروزوغرافي.
ووصف الكائنات الفانتازية/ المجازية المعروف باليوطوبيا [كما جاء في دراسة نقدية للأديبة عبلة عباد في بحث لها بعنوان تقنية الوصف، نشر في مجلة أقلام الثقافية/ واحة الإبداع بتاريخ 3 آيار 2011م].

وكل هذا وجدناه متحققاً في هذه النماذج التي اخترناها من المجموعة القصصية: شرفات الحصون للأديب القاص المبدع عبدالله ساعد المالكي.
والله من وراء القصد، والحمد لله رب العالمين.

 

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *