دراسة نقدية.. العبور نحو القصيدة!! قراءة في تجربة الشاعر “معَبِّر النهاري”

د. يوسف العارف

العبور نحو القصيدة!!
قراءة في تجربة الشاعر “معَبِّر النهاري”
عبر ديوانيه (بسملة 1437هـ) و(أولئك 2021م)
 
(1) … و(مُعَبِّر النَّهارِيْ)، شاعر يَفْتَرُّ له ثغر القصيد فيلقي لنا مباهجه وآلامه في قواف مطريات تشرئب لها أعناق القراءات الناقدة، وتستلهم منها الجمال واللغة والصور الباذخة.
تدهشك القوافي العذاب، والبحور الخليلية المنسابة روعة وجمالاً، والتجديد المقولب في دائرة من التماسك الشعري التقليدي والتحديث الموسيقي الداخلي في نصوص محدودة.
أقول هذا (المختصر المفيد) أو (الموجز الإخباري) قبل أن نبدأ في التفاصيل والبروتوكولات النقدية.
#      #     #
(2) منذ العام 1438هـ أهداني هذا المبدع الصديق ديوانه (بسملة) وفي نهاية العام المنصرم 1442هـ حصلت من نادي أبها الأدبي على الديوان الثاني (أولئك) – رغم أنه وعدني بإرسال نسختي الموقعة ولازلت أنتظر!! -.
وبعد التصفح الأولي، ثم القراءة المتأنية، ثم التعمق القرائي – بغية الحصول على المفاتيح التي يمكن أن نكاشف (الديوانين) من خلالها ونصل إلى عمق مكوناتها الجمالية والأسلوبية والشعرية – بعد كل ذلك توقفت عند ثيمة دالة ومعبرة، أو قل شفرة رامزة ومسيطرة يمكن أن تكون إحدى مفاتيح الإبداع الشعري عند (معبر النهاري) بل هي عندي المفتاح الأجمل والقادر على التداخل النقدي مع هذا المنجز الشعري وهو مفتاح يتشكل عبر أيقونات مفاهيمية واضحة حقيقية، أو رامزة تلميحية. إنه مفتاح (القصيدة) ومرادفاتها أو أضدادها، أو ما يشير إليها، أو ما يحدد ماهيتها، مثل الحروف، الكلمات، الخليل، الشعر، الغناء، الموسيقى، اللغة، أسماء شعراء معروفين،… وغيرها.
ومن هنا ستكون مداخلتنا حول هذا المفتاح الدلالي لسبر أغوار الديوانين وجمالياتهما القولية/ الشعرية.
#      #     #
(3) تجيء مفردة (القصيدة) ومدلولاتها في المدونة الشعرية (النهارية) بواقع (100 مرة تقريباً) تكررت في الديوانين (بسملة) 50 مرة، و(أولئك) 51 مرة تقريباً ويتأكد ذلك بجردة إحصائية حيث نجد ما يلي:
تكرار كلمة (قصيدة) 20 مرة.
وتكرار كلمة (شعر) 22 مرة.
وأما ورود أسماء الشعراء فبلغ 17 مرة.
إذاً فنحن أمام (59 مرة) تتجلى فيها مكونات ودلالات القصيدة، ويكمل باقي (المائة) ألفاظ وإيحاءات رامزة ودالة على ذلك مثل: البوح – الشدو – الحروف – اللغة – القوافي – اللحن – الخليل – الأغاني – الموال – عبقر، القوافي – أنغام.
وهذا يعني أن الموضوع الرئيس الذي يشتغل عليه القاموس الشعري عند الشاعر معبر النهاري هو البحث عن (القصيدة) وآفاقها وأبعادها وتشكلاتها انظر (مثلاً قوله):
تجيء القصيدة ملتاعة
             يعانقها القلب رغم التعب
[من قصيدة امبجيدة – ديوان أولئك) ص 16]
وكذلك قوله:
طافت عليها الروح سبع قصائد
                   واستغفر الريحان نشوة نهدها
[من قصيدة رمان – ديوان (بسملة) ص 43]
وهنا يتضح أن الشاعر النهاري يؤكد شعرياً انتماءه للشعر والشعراء والمجالات الشعرية التي تشكل فضاء القاموس الشعري ودلالاته والتي تحددت في ثلاث فضاءات بارزة وواضحة نقدياً وهي:
فضاء المفردة بحقيقتها  القصيدة/ الشعر
وفضاء الدلالة والرمز والإحالة إلى الشعر.
وأخيراً فضاء الأسماء والرموز الشعرية إن تراثياً أو معاصراً .
وهذا ما ستحاول القراءة النقدية استكشاف نماذجها وتناولها تأويلاً وتحليلاً مركزين على الفضائين الأول والثالث.
#     #     #
(4) ومما سبق تصل الدراسة إلى الفضاء الدلالي الخاص بالمفردة (القصيدة/ الشعر) وتجلياتها ونماذجها القولية/ الشعرية، التي تكررت في الديوانين حوالي 42 مرة، وعبر هذا التكرار نجد أن كلمة (قصيدة) وكلمة (شعر) وتكراراتها تأتي في سياقات ومضامين متفاوتة فمثلاً في قصيدة بعنوان أحداق القصيدة [ديوان بسملة، ص ص 33-34] يأتي البحث عن (القصيدة) عبر بكائية سياسية عن اليمن الذي كان سعيداً، واليوم ترتمي (صنعاء) في فراش الفرس كقينة مستباحة!!
لغة نامت بأحداق القصيدة
               كوحيد ذاب في حضن (وحيدة)
………….
وبها الألفاظ تغدو كرمة
              تبعث النشـــــوة في الروح البليــــــــدة
………….
أين (وادي الدور) أيان (الحدا)
             يا ذمار (الشعر) يا (وادي عبيدة)
………….
أظلم الشعر فلا كاهنه
              سيغنينا ولن تحلو النشيدة
………….
تنحني الهامات حولي ترتمي
              والمعاناة وميلاد القصيدة!!
في هذه المقتبسات من القصيدة تتضح التحولات الدلالية والتماوجات الفكرية التي تحيط بالنص، وكيف يتخلق الشعر أو (القصيدة) من مجمل هذه المشاعر التي تسيطر على ذهن الشاعر!!
ومثلاً آخر من خلال النص الموسوم بـ [حكاية الزيتون من ديوان (بسملة) ص ص 81-84] تأتي (القصيدة) من خلال العلاقة الاجتماعية مع رفاق الأمس الذين تشاكلت علاقاتهم بين هجر ووصل ولقاء وفراق، فتبدو الحالة الوجدانية بين مشاعر اليأس والهم والثقة والتفاؤل:
دعني ستكسرني القصيدة مجبره
                  قلقاً على باب الغواية محضره
……….
باتت تساءل عن حكاية صمته
                  وبثغـــــــــــــره كل اللغـــــات مبشـــره
……….
ما باله الغرّيد يصمت فجأة
                 هل شاخ جدوله؟! الربى مستنفره
……….
هل يرحل الإبداع رغم أنوفنا
                صحـــــــــف وربك ماتــــزال منشــــره
……….
يا أيها المغتـــــال نزفــــك ذائـــع
                هل أشعل السمار قلبك مبخره؟!
وفي هذا المقتبس تتضح – كذلك – التحولات الدلالية للبحث عن القصيدة/ النموذج عبر ثنائية (الأنا والهُم)، (الذات والغير) في مسيرة اجتماعية/ أدبية/ شاعرية!!
أما تجليات (القصيدة) – كمفردة متحولة/ متنامية/ متعددة المضامين والسياقات في ديوان (أولئك)، فنجدها أولاً في سياق التفاخر وامتلاك ناصية البيان والإبداع وبيان العلاقة الوطيدة مع الشعر.. يقول في نص [قميص المرسلات… ص ص 22-23]:
وحدي أسافر في مداه بلا مدى
                  وأمد كف الروح أحتلب الظما
وعلى شحوب الذكريات أخيط من
                  شبق التمــــــزق ما تفتــح برعما
وأصوغ فتنته بحرف قدَّهُ
                 بحمى الغواية قد تعوذ واحتمى
وأطرز الهالات أغزل هيكلاً
               ليقال من فـــــــلك التفـــــرد قد نما
لأضيف في لغة القصائد أحرفاً
                                  حار (الخليل) يقطفها وتلعثما
وطوال الأبيات الأربع عشرة – في هذه القصيدة – تبدو هذه التفاخرية والتمجيد/ ذاتية عبر بوابة الشعر/ القصيدة.
كما نجدها ثانية في سياق المدح والاعتزاز بالشعراء الذين يستنبتون القصائد ويتغنون بالإبداع، ويصنعون نبوة غرامية/ شعرية!! يقول في قصيدة بعنوان [نبي الغرام من ديوان (أولئك) ص ص 33-36]:
جاءوا يغنون/ في نيسان/ فاحتفلت
تلك الربوع بهم/ فاسَّاكبوا شجناً
القادمون وذي (جازان) ملهمة/ كوناً تشافى هوىً/ فاستنبتوا وطناً
جاءت على صوتهم سبعون قافيةً / فأطعموها لظى
وجدانهم فننا
……….
               لم يخلق الشعر إلا لون غربتهم/ فموسقوا السفر
                المجنون/ والمدنا
إلى آخر النص الإبداعي وزناً وقافية وطريقة كتابية سطرية على نماذج النصوص الحرة والحداثية حيث عمد إلى توزيع المفردات والتراكيب على السطر إثراءً للدلالة وتنويعاً للأساليب الكتابية، واستثماراً للفراغات البصرية/ الكتابية.
وهناك الكثير من السياقات والمضامين التي يمكن ملاحظة أيقوناتها التفاعلية والدلالية لتخصيب مفردة القصيدة ومفردة الشعر في تناميات جاذبة ومغرية بالتناول النقدي في كلا الديوانين !!
#     #     #
(5) أما الفضاء الدلالي المعبر عن هيمنة الأبعاد الشعرية وتجلياتها على ذهن شاعرنا النهاري، فهو فضاء الأسماء والرموز الشعرية سواءً في تراثيتها أو معاصرتها ومجايلتها للشاعر وفي هذا السياق تأتي الاستشهادات المائزة بأسماء شعراء معروفين عرباً وأجانب، معاصرين وتراثاً. وهذا يعني الارتباط الضمني، والحبل السري الذي يربط بين أفراد قبيلة الشعر من الماضين حتى اللاحقين.
فنجد استحضار الشاعر التراثي (أبي نواس) في قوله:
على بساط (النُّواسي) هاهنا جلسوا
                   يفلسفون لدنيا العشق ما غرسوا
[قصيدة أولئك… ديوان أولئك ص ص 9-10].
ونجد استحضار الشاعر (الحلاج):
ويغدو كما (الحلاج) سبطاً لروعة
                      يسافح وجداناً لشكوى لداته
[قصيدة تجليات الولد الناسي، ديوان أولئك، ص ص 11-13].
كما نجد استحضار (الخليل بن أحمد) عالم العروض والبحور الخليلية في قوله:
لأُضيف في لغة القصائد أحرفاً
                  حار (الخليل) بنطقها وتعلثما
[قصيدة قميص المرسلات، ديوان أولئك، ص ص 22-23].
ولم ينس شاعرنا النهاري استحضار الشاعر الأنجليزي (شكسبير)، واستحضار (عنترة) الشاعر الجاهلي و(السياب) الشاعر العراقي المعاصر، والشاعر (حسن الصيرفي) أحد شعراء المدينة المنورة المعاصرين رحمه الله!!
[انظر ديوان أولئك، ص 76، ص 78].
وفي هذا الاستحضار لبعض الرموز والأسماء الشعرية دلالة وثيقة لانتماء الشاعر إلى هذه الفئة الأدبية وتعاطيه مع أدبهم وشعرهم، واستثماره لطاقاتهم الإيجابية وحضورهم في المدونة الشعرية.
ويتأكد هذا الفضاء النقدي، عبر ديوان الشاعر النهاري (بسملة)، ففيه نجد الانفتاح الواضح، والانتماء الصريح للشعر والشاعرية وما تشكله بعض الأسماء الشعرية والرموز الأدبية وخاصة في منطقته (جازان)، حيث يحضر الشاعر حجاب الحازمي، والشاعر عبدالرحمن الرفاعي، والشاعر إبراهيم مفتاح وأحمد بهكلي كما في الأبيات الشعرية التالية:
هنيئاً لأرض الشعر ذكراك عطرها
كأن (حجاب الغيث) ما صام عمره
يسنبل عن (عطاف) ألوان سؤله
يشب بنبضي (للرفاعي) صادح
لأنثر (للمفتاح) أفوافها صباً
فتغدو بها دانات عشقي قصيدة
 
عروساً تهادت كالصباحات مذهله
ليسقي صهيلاً ميسم الشعر جندله
أفي ضمد تحيا الجراح المفصله
يساكب آيات من الغيب منزله
يشعبنها حسناً متى البدر كلله
(أبهكلها) في رقة كالسفرجله
[أبيات متفرقة من قصيدة (بسملة)، ديوان (بسملة) ص ص 71-75].
كما يحضر جملة أخرى من شعراء المنطقة مثل الشاعر إبراهيم صعابي، وابن صيقل – وأعتقد أنه الشاعر علي صيقل – وابن زيلع وهو الأديب القاص والشاعر عمر طاهر زيلع والرفاعي – وأعتقد أنه عبدالرحمن الرفاعي – حيث يقول الشاعر:
هل يرحل الإبداع؟! رغم أنوفنا
صحف وربك ماتزال منشره
يروى بها أن (الرفاعي) قبله
في كل إبداعٍ وشمس نيِّره
لكنما تدرون موجاً جارفاً
رام (ابن زيلع) كي يصادر أخضره
حمل (ابن صيقل) عن رفيف قلوبنا
لتظل أنات القلوب مصدره
وعتا على خفق (الصعابي) عنوة
بل زار موسمه الوضيء فغيره

فعلام خفّاقي يُحمًّل وزرهم
أأظل طِرساً في الغياب ومحبره
[أبيات من قصيدة حكاية الزيتون، ديوان (بسملة) ص ص 81-84]
ومع ما يستشف من ألم وحزن عبر هذه العلاقة الشاعرية مع أولائك الرموز أو بعضهم إلا أن فيها تأكيد على الذات الشاعرة وتماهيها في الكواكب الشعرية المضيئة التي تعايش معها الشاعر وتلاقت طموحاته مع طموحاتهم وتكاملت آماله الشعرية مع آمالهم حتى أصبحوا رموزاً تحتفي بهم مسيرة الشاعر في بحثه الدائم عن الشعر والقصيدة.
#     #     #
(6) وهكذا يتنامى الشاعر معبر النهاري في الفضاءات الشعرية التي تؤكد تعالقه الفكري والبنيوي والذهني مع مدارات الشعر ومآلاته وتجاذباته وتحولاته فينبسط لدى القارئ مدى هيمنة البحث عن الشعرية، والشعرنة، والتواصل مع المبدعين من الشعراء تتلمذاً ومجايلة وإفادة، والبحث عن التجديد والإبداع حتى يسجل في حياته الشعرية أقدمية وأفضلية وتفرداً بإضافات جديدة يحار ويتلعثم (الخليل بن أحمد وفريقه من الشعراء والعروضيين) في نطقها:
وأصوغ فتنته بحرف قدٌّه
وأطرز الهالات أغزل هيكلاً
لأضيف في لغة القصائد أحرفاً
 
بحمى الغواية قد تعوذ واحتمى
ليقال من فلك التفرد قد نماً
حار (الخليل) بنطقها وتلعثما
[قميص المرسلات (أولئك)، ص 22].
وفي كل ذلك تجيء شعرية النهاري فائضة بالجمال ذات مفردات مضمخة بعبير الذكريات وفيوض من الوفاء تحلق فيها الروح الشاعرة نحو أمداء من البهاء والجمال، وتبلور آثارها الوجدانية والإنسانية في ينابيع دلالية يغترف منها الشاعر جل معانيه وإيحاءاته,
وهنا يبرز الشاعر (معبر النهاري) المتميز بإبداعه، والمتألق في شاعريته والمشتعل في وجدانه [كما يقول الناقد الدكتور محمد الشنطي في تقديمه لديوان بسملة، ص 22] ليكون إضافة نوعية في الشعرية السعودية، وسفراً مهماً من تشكلات مكتبتنا ومدونتنا الثقافية، وينطبق عليه قوله [في نص بعنوان المتدثر ص ص 58-60]. 
تدثر بالصمت بين الورق
فصاغ إلى الشمس درباً له
تمطَّى على قلبه طيبة
فمازال كالبدر في ليلهم
 
وأبصر كوناً له فانطلق
وبالسحر أدمى لهاه الشفق
وغازله الشَّجو لما ائتلق
ولولاه هذا السنا ما انبثق
تحية لهذا الشاعر المبدع ، وفي انتظار الجديد من القصائد والدواوين الباذخة فناً وتماساً مع واقع القصيدة العربية في مشهدنا المعاصر.
والحمد لله رب العالمين.
 صباح الاثنين 1/1/1443هـ
صباح السبت 12/1/1443هـ

د. يوسف حسن العارف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *