الحمد لله الواحدِ المعبود، ربِّ العطاءِ والكرم والجود، الذي مَنَّ على عباده بمواسم الخيرات، ليغفرَ لهم الذنوب ويعظم لهم الأجر ويجزل لهم الهبات، والصلاة والسلام على خير البرية وازكى البشرية نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعـد:
من جميل نعم الله ونفحاته علينا التي تستوجب منا الشكر، أنْ يمد الله لنا في العمر، فيُبلغنا مواسم الخيرات، ويَعرضُ علينا فيها القطوف الدانيات، والثمار اليانعات.
هذه المواسم أيها الأحبة مواسم تُعَظمُ فيها الطاعة، وتُطِيبُ فيها مظاهر القرب والضراعة، وتزدهي أرجاؤها بكل أنواع العبادة والقرب من الله تعالى، فهي مواسم جليلة، ونفحات ربانية عليلة، خص الله بها هذه الأمة، لرفعة الدرجات، والتنافس في الطاعات، والاجتهاد في العبادات والتسابق في مضمار الحسنات والفوز بأعلى الجنات.
فَكَمْ للهِ مِـنْ نَفَـحَـاتِ خَيْـرٍ
فَجِـدَّ السَّيْرَ فَالدُّنْيَا حُـطَــامُ
********
وَقُلْ يَارَبِّ مَغْفِـرَةً وَعَـفْـوًا
فَأَنْتَ الْمُرْتَجَـى أَنْتَ السَّلَامُ
وإن من صميم وحسن استشعار هذه النعم، المبادرة إلى إغتنامها، والتقلب ، في أفضال أيامها، واستمطار وابل غمامها، فإنها إن فاتت كانت حسرةً مابعدها حسرة، وكمدًا يدوم عَوارُهُ لِأَمد.
دَعِ التكاسُلَ في الخَـيراتِ تطلُبُـها
فليـسَ يسعَدُ بالخَــيراتِ كَسْـلانُ
فاستشعار هذه النعم؛ وشكر الله عليها هو مدعاة للجد في العمل، وحث للسير مابين مشيٍ ورمل، ومحاولة لفتح باب القبول، فهنيئًا لمن تعرض لنفحاتِ أرحم الراحمين، وأحسن مناجاة من هو أقرب إليه من حبل الوتين، وسأله الستر والمغفرة.
روى الطبراني بسند حسن من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: (افْعَلُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ، وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ لِلَّهِ نَفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَسَلُوا اللَّهَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ، وَأَنْ يُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ). [رواه الطبراني، وحسنه الألباني].
يقول شيخنا الشيخ ابن باز -رحمه الله تعالى- في مجموع الفتاوى ١٦/٢٣٦: فإن لله تعالى في أيام دهرنا نفحات يصيب بها من يشاء من عباده فلنستبق إلى الخيرات، ولننتهز المناسبات الفاضلة فنشغلها بطاعة الله عز وجل والعمل بما يرضيه.
قال تعالى: {وَفِى ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَٰفِسُونَ}[المطفّفين: ٢٦].
وقال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}.[سورة البقرة: ١٤٨]
وفي “الطَّبراني” من حديث محمد بن مَسْلَمة مرفوعًا: ((إنَّ لله في أيام الدهر نفحاتٍ فتعرَّضوا لها؛ فلعلَّ أحدَكم أن تُصِيبه نفحةٌ فلا يشقى بعدها أبدًا))؛ والحديث في “صحيح الجامع”.
سابِق إلى الخير وبادِر بِهِ
فإن مِن خَلفك ما تَعْلَمُ
********
وقَدِّم الخير فُكُلّ امرئ
على الذي قَدَّمه يُقْدِمُ
لقـد خصَّ الله سبحانه وتعالى بعض الأمكنة والأزمنة بفضائل ومزايا، ومنح وعطايا، حيث ضاعف فيها الأجر والثواب، وجعل لطارق باب الرحمات فيها أن يُوشَك أن يُفْتَح له الباب، ويَنهالُ عليه من فيض عطاياهُ الجِسَام، ومن هذه الأزمنة التي خصَّها الله بفضائل؛ العشر الأوائل من شهر ذي الحجة، فقد جعل الشارع للأعمال الصالحة فيها مزية تفوق فضل الجهاد في سبيل الله، فطوبى لأيام تكون فيها الأعمال أعظم أجرًأ من إزهاق النفوس على حد السيوف.
فلابد أن يكون المسلم على قدرها من الاهتمام والتصرّف، وقد تفضّل نبينا عليه الصلاة والسلام بالتأكيد على أهمية العمل الصالح فيها، فقد ثبت عند البخاري مرفوعًا: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ» يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ».
يقول شيخنا الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي غفر الله له:
الأيام العشر فضائلها تشمل الليل والنهار، ولذلك هي أفضل من العشر الأواخر من رمضان من وجوه:
الوجه الأول: صريح قوله عليه الصلاة والسلام : “مامن أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله عزوجل.
الوجه الثاني: أن العشر من ذي الحجة ففضلها شاملٌ لليل والنهار، وأما العشر الأواخر ففضلها في الليل فقط.
الوجه الثالث: أن عشر ذي الحجة فضلها متأصل، أي أنه ليس بتبع، أما العشر الأوآخر جاءت فضائل ليلها مبنية على التماس وطلب ليلة القدر.
إذ تبين لنا هذا أيها الأحبة فحري بنا أن نستقبل هذه العشر ونخصها بمزيد عناية واهتمام، وأن نحرص على التوبة الصادقة والبعد عن المعاصي ومجاهدة أنفسنا بالطاعة فيها، وأن نكثر من أوجه الخير وأنواع الطاعات، ولسان حالنا يقول كما قال الشاعر:
أعْدَدْتُ لِلْعَشْرِ المُبَارَكِ عُدَّتِي
ورَفَعْتُ فِي دَرْبِ العِبَادَةِ هِمَّتِي
********
هِيَ فُرْصَةٌ لا يَنْبَغِي أنْ تَنْقَضِي
إلا بِحَظٍّ وَافِرٍ مِنْ طَاعَتِي
********
أيَّامُهَا .. نَفَحَاتُهَا .. أسْرَارُهَا
حَتَّى ليَالِيْهَا أنَارَتْ ظُلْمَتِي
********
أذْكَارُهَا ودُعَاؤُهَا وقِيَامُهَا
أنْوَارُهَا وصَفَاؤُهَا فِي مُهْجَتِي
********
وأَعُدُّ أيَامِي لأبْلُغَ بُغْيَتِي
والعِيْدُ عِنْدِي فِي قَبُولِ ضَرَاعَتِي
********
عَشْرٌ مِنَ الجَنَّاتِ حَلَّتْ فِي الدُّنَا
فَلْتَغْنَمُوا وتُشَمِّرُوا يَا إخْوَتِي.
كيف لانبادر أيها الأحبة وقد اجتمع لهذه العشر الأوائل من ذي الحجة من دواعي التفضيل والإهتمام مالم يجتمع لغيرها:
أولاً: أنّ الله شرفها وكرمها، فأقسم بها في أول سورة الفجر، وإذا أقسم الله بشيء دل هذا على عظيم مكانته وفضله، إذ العظيم لايقسم إلا بالعظيم قال تعالى: {وَالْفَجْرِ (١) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (٢) }. [الفجر: ١، ٢].
ثانيًا: أنّه اجتمع فيها أمهات العبادات والفضائل من صلاة وصيام وزكاة وحجّ وذكر …قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في الفتح: (والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره).
ثالثا: أنها الأيام المعلومات التي شرع فيها ذكر الله.
قال تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَارَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ.}. الحج الآية: (٢٨).
وجمهور العلماء على أن الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة، منهم ابن عمر وابن عباس.
رابعًا: أنها أفضل أيام الدنيا.
فعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(أفضل أيام الدنيا أيام العشر ـ يعني عشر ذي الحجة ـ قيل: ولامثلهن في سبيل الله؟ قال: ولامثلهن في سبيل الله إلا رجل عفر وجهه بالتراب).[ رواه البزار وابن حبان وصححه الألباني]
خامسًا: أن فيها يوم عرفة الذي قال فيه – صلى الله عليه وسلم – كما في حديث عائشة رضي الله عنها: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء ؟).[رواه مسلم]، وهو يوم مغفرة الذنوب وصيامه يكفر سنتين.
سادسًا: أن فيها يوم النحر.
وهو أفضل أيام السنة عند بعض العلماء، قال صلى الله عليه وسلم: (أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر). [رواه أبو داود والنسائي وصححه الألباني].
وإذا علم هذا أيها الأحبة فهناك من الأعمال التي يستحب للمسلم أن يحرص عليها ويكثر منها في هذه الأيام:
أولاً: أداء مناسك الحج والعمرة.
لمن تيسر له ذلك. لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) [متفق عليه].
ثانيًا: الصيام، وهو يدخل في جنس الأعمال الصالحة.
وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم صيام يوم عرفة من بين أيام عشر ذي الحجة بمزيد عناية، وبين فضل صيامه فقال: (صيام يوم عرفة احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده) [رواه مسلم].
ثالثًا: الصلاة، وهي من أجل الأعمال وأعظمها، فيجب المحافظة عليها في أوقاتها مع الجماعة، ويكثر من النوافل فإنها من أفضل القربات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: (وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه)
[رواه البخاري].
رابعًا: التكبير والتحميد والتهليل والذكر، فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد) [رواه أحمد].
وقال البخاري كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
خامسًا: الصدقة، وهي من جملة الأعمال الصالحة التي يستحب للمسلم الإكثار منها، وقد حث الله عليها فقال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَٰكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَٰعَةٌ ۗ وَٱلْكَٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ}. [البقرة:٢٥٤].
سادسًا: الأضحية، وتشرع الأضحية في يوم النحر، وهو أول أيام العيد، وأيام التشريق الثلاثة وهي سنة أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين فدى الله ولده بذبح عظيم، وقدثبت عن أَنس رضي الله عنه قال: (ضَحَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ وَسَمَّى وَكَبَّرَ وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا) [متفق عليه].
وهناك أعمال أخرى كثيرة ذكرها أهل العلم يستحب الإكثار منها في هذه الأيام نقتصر على ذكر بعض منها:
قراءة القرآن وتعلمه ـ والاستغفار ـ وبر الوالدين ـ وصلة الأرحام والأقارب ـ وإفشاء السلام وإطعام الطعام ـ والإصلاح بين الناس ـ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ والإحسان إلى الجيران ـ وإكرام الضيف ـ وإماطة الأذى عن الطريق ـ وزيارة المرضى ـ وقضاء حوائج الإخوان ـ والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها…
وفي الختام أيها الأحبة: أيام هذا فضلها حري بالمؤمن الصالح الحريص على الخير أن يهيئ نفسه لاستقبالها.
إِذا هَبَّتْ رِياحُكَ فَاغْتَنِمْها
فَعُقْبَى كُلِّ خافِقَة ٍ سُكُوْنُ
********
ولاتَغْفَل عَنِ الإحْسَان فِيهَا
فَلا تَدْرِي السُّكُونُ مَتَى يَكُونُ
أسأل الله جل في علاه أن يوفقنا جميعا لما يحبه ويرضاه، وأن يفقهنا في ديننا، وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولامضلين، ويجعل أعمالنا في هذه الأيام (أيام عشر ذي الحجة) وغيرها من الأيام خالصة لوجهه الكريم، ويمن علينا بالقبول، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين …
حسن مهدي قاسم الريمي
مقالات سابقة للكاتب