خطيب الحرم المكي: الانتماء للوطن ليس مجرد عاطفة وإنما إحساس بالمسؤولية

أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس المسلمين بتقوى الله والازدلاف إليه بالطاعات، في الخلوات والجلوات، في اللفظات واللحظات، والنظرات والخطرات.

وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم بالمسجد: تحقيقًا للمبادئ والثوابت أمام طوفان المتغيرات والنوابت، وفي ظل تنامي موجات التشكيك والأفكار الدخيلة، والمساومة على المبادئ والقيم الإسلامية والإنسانية، وأمام التحديات الفكرية والأمنية والتنموية، وجديد الصراعات والأزمات، تتطلع الشعوب والمجتمعات إلى ترسيخ أسس ومرتكزات تُحَقِّقُ من خلالها التقدم والازدهار، وتعانق بها الأمجاد، وتسابق الحضارات، ومدارها على الدين والقيم؛ فهما الفخر والشيم، يكمن ذلك في: إيمان خالص، وأمنٍ وارف، وقيم نبيلة، واعتدالٍ لاحب، وعلم واجب، وتربية سليمة، وتنمية مستدامة، ورقمنةٍ مستفادة، وأنسنةٍ مستفاضة، وجودة عالية للحياة شاملة، تلك عَشَرَة كاملة، تحقق الإسعاد للمجتمعات، والازدهار في الأمجاد والحضارات.

وأكد أن الحضارة الإسلامية قامت على أُسُسٍ دينية وقيمية لا مثيل لها، ذلك أن رسالتنا الإسلامية عالمية حضارية، ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ))، وإن من أَجْلَى خصائصها الزكية، جمعها جوهر الشرائع السماوية، وخلاصة الرسالات الإلهية، التي تبني أمجاد المجتمعات الإنسانية، وشوامخ الحضارات العلية، ولُباب القيم السنية؛ فالإسلام ينظر إلى الإنسان نظرة شاملة دقيقة متوازنة؛ يصلح معها حال الإنسان ويراعي حقوقه وكرامته دون تنازل أو مساومات، مهما تغيرت الأحوال أو الأماكن، أو تعاقبت العصور أو تبدلت الأزمان.

وأضاف أنه عندما ترْتقي الفهوم إلى مَدَارات الإسلام وتشريعاته الحُكْمِيّة، وأسْرَارِه الحِكَمِيّة، وإشراقاته الإنسانية، فستجد أنه اعتمد على ركن الدين والقيم؛ فالإيمان، والعقيدة، والتوحيد أساس الحياة، الذي يرفع النفوس إلى قمم العز والشرف والصفاء، ويسمو بها عن بوار الوثنية والشرك والشقاء، أمام الموجات الإلحادية، والنَّيْلِ من الذات الإلهية، والتعلقات بالأوهام والخزعبلات، والتشاؤم من الشهور والمطالع: ((أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ))، واعلم بأن أول واجب على العبيد إفراد الله بالتوحيد، قال الإمام ابن القيم:”وما أنعم الله على عباده نعمة هي أعظم من نعمة التوحيد، فبه أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وقامت سوق الجنة والنار”.

وبيّن “السديس” أن الإسلام يُعلْي شأن القيم والأخلاق الفاضلة، التي نهل رادة الحضارات، ونحارير المبادرات من نبع مكارمها السلسال، وارتشفوا من معينها الذي جرى وسال، قال: “إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق” أخرجه الإمام أحمد في مسنده والبخاري في الأدب المفرد.

وأكد أن القِيم الإسْلاميّة، هِي مِعْراج الرُّوح لِبنَاء الشَّخْصِيّة السَّوِيّة العالَمِية، فبصالح الأخلاق دامت الممالك الأُوَل، وبسفسَافها دَالت كثير من الدول، فهي روحٌ تحيا بها المجتمعات والممالك، وسراجٌ وهَّاج يُضِيء الخطوب الحوالك وهنا تُعلى قيم الصدق والأمانة والرفق واليسر وبر الوالدين وصلة الأرحام وحقوق الأخوة ورعاية الأيتام وأعمال الخير والتطوع والإغاثة والإنسانية، في مجافاة للعنف والإيذاء والعقوق وسلب الحقوق.

وأوضح إمام المسجد الحرام أن الله تعالى امتن على بلاد الحرمين الشريفين بنعمة الأمن والأمان، وأنتم أولاء ترون الناس من حولكم وما يعيشونه من خوف واضطراب في مختلف البقاع والأصقاع، ونحن في بلاد الحرمين الشريفين ننعم بالأمن والأمان والإيمان، نعتز بديننا ونفخر بقيمنا، فلله الحمد والمنة.

ومضى فضيلته قائلاً: هذا يؤكد أن الانتماء إلى الوطن ليس مُجرَّدَ عاطِفَة غامرة أو مشاعر جيَّاشة فحسب، بل هو مع ذلك إحساسٌ بالمسؤولية وقيام بالواجبات، فالمواطنة الحقة شَرَاكةٌ بين أبناءِ الوطن في الحياة والمصير والتحدِّيات، وفي المقدَّرات والمكتسباتِ والمُنْجَزَات، وفي الحُقُوقِ والوَاجِبَات، وذلك من خلال الرؤى المستقبلية، والخطط الاستراتيجية، والاستثمارات الحضارية، والمنشآت الرقمية التقنية، إلى غير ذلك من الفاعلية الإيجابية، والإسهامات الإنتاجية التي تحفز على التنمية القائمة على استثمار التقنية، والتحول الرقمي، والذكاء الاصطناعي، لمواكبة عصر الثورة التقنية من خلال التنمية المستدامة، والمواكبة العلمية للتطور الحضاري العالمي.

وبين الدكتور السديس أن من أهم ثمار حب الأوطان؛ الوحدة واللُّحمة ولزوم الجماعة، وحسن السمع للإمام والطاعة، في وسطية واعتدال، فلا غلو ولا تطرف، ولا جفاء ولا انحلال، في وحدة متألقة تتسامى عن الفُرْقَةِ والانقسامات، ووبيل التهم والتصنيفات، ((وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُون)).

وأوضح أن من أجل مظاهر القيم السامية العدل والإنصاف حتى مع المخالفين، ((وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى))؛ فالإسلام لم يَقُم على اضطهاد مُخالفيه، أو مصادرة حقوقهم، أو تحويلهم بالإكراه عن عقائدهم، ((لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ))، أو المساس الجائر بأموالهم وأعراضهم ودمائهم، بل ضمن الحريات بلا تجاوز وانفلات، إذ الحرية قائمة على الضوابط الدينية والقيمية والنظامية، في تسامح وتعايش وحوار لم يشهد له العالم مثيلا.

وتابع: ولَئِنْ كَانَ هَذَا العَصْر، هُوَ العَصْر الذي بَلَغَت فيه البَشَرِيَّة ذُرَا الرُّقِيِّ الفِكْرِيِّ، والحَضَارِيِّ، والثَّقافي، والمادِّي، والتقاني، فإنَّه أيضًا، هو أشدُّ العُصور حَاجَةً وعَوَزًا للعلم والمعرفة المقرونة بحسن الوعي والتربية، ولعل أبناءنا وفتياتنا الذين يستقبلون عامهم الدراسي الجديد يدركون ذلك من خلال التكامل الفينان بين الأسرة والمدرسة لتطوير المنظومة التعليمية والتربوية أمام سيل التحديات القيمية، لاسيَّما المخالفات في المحتوى الإعلامي ووسائل التواصل الاجتماعي، وغثائية بعض من يوسمون بالمشاهير وحوكمتها، وفي مواكبةٍ لكلِّ المتغيرات، يدعو الإسلام إلى الإتقان والجودة، والتميُّز والابتكار والإبداع، فأي فخر وأي شرف بعد هذا الشرف..!!، وإن المتأمل لمبادئ الجودة والأنسنة الشاملة، يدرك سبق الشريعة لتلك المبادئ التي هي أصلاً من أسس الدين ومعالم الإسـلام، كما يجد أن الإسلام حث عليها وعمل على ترسيخها؛ فَحُب العمل وإتقانه والمهارة في أدائه، والإخلاص فيه ومراقبة الله تعالى كلها مبادئ رغَّب فيها الإسلام، ووعد فاعلها بالثواب والأجر العظيم.

وأكد خطيب المسجد الحرام أن مفهوم الجودة والأنسنة حاضرٌ في كل تعاليم الدين بكل مضامينه وهو يمثل قيمة إسلامية عظيمة لا تنفك عن كل الأعمال الدينية والدنيوية، قال تعالى: ((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً))، وقال صلى الله عليه وسلم: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه”، أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، وبذلك تتحقق المجتمعات الحيوية، والتنمية المزدهرة، والأوطان الطموحة، ويسهم في تجسيد وتحسين الصورة المشرقة عن الإسلام والمسلمين، وما ذلك على الله بعزيز.

واستطرد “السديس”: إن ما يميز المجتمع الإسلامي عن غيره أنه آخذ بعضه بيد بعض، يوصي بعضهم بعضًا بالحق والصبر عليه، ويتعاونون على البِرِّ والتقوى، قال صلى الله عليه وسلم :”كُلُّكُمْ راعٍ وكُلُّكُمْ مسئول عن رعيَّته” (متفق عليه)، فشريعتنا الغراء لا تعرف الانعزالية والانغلاقَ، والتقوقعَ والجمود، لكنها تعرف الانفتاح والتجدد والمرونة وَفْقَ المتغيرات والمستجدات، مع المحافظة على الثوابت والمُسَلَّمَات.

واختتم خطيب المسجد الحرام قائلا: واجبنا الديني والقيمي والوطني لَيُحَتِّم على كل فردٍ مِنَّا، وخاصة القادة والعلماء وذوي الفكر والرأي والإعلام والرموز والقدوات والشباب والفتيات والمرأة أن ينهض كل بواجباته لنكون يدا واحدة في وجه المنتهكين لحرمات الدين والأوطان؛ من خلال التَّصَدِّي للشائعات المُغْرِضَة، والأخبار الكاذبة، والدَّعَواتِ المشبوهة، والجماعات المُنْحَرِفَة، والأحزاب الضالة، والتنظيماتِ المارقة، التي تسعى جاهدة إلى إثارة البلبلة والفتن، والقلاقل والإحن، والخيانات الدينية والوطنية، لننعم جميعا بالأمن والاستقرار، ونحافظ على الوحدة الدينية، واللُّحمة الوطنية، وتعزيز قيم النزاهة والشفافية، ومكافحة الفساد بشتى صوره، والحفاظ على المال العام، وعدم الاعتداء عليه وعلى المرافق والممتلكات العامة، والإبلاغ عن جرائم الفساد ومرتكبيها، والجرائم العابرة للحدود والقارات، ومن يقف وراءها من أيدولوجيات ممنهجة لتطهير المجتمعات من آثارها الوخيمة، وكذا مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية، وتثمين دور رجال مكافحة المخدرات على تجنيب بلادنا وشبابنا ويلات هذه السموم والجرام المدمرة، وتجنيب البلاد والعباد ويلات الحروب والكوارث، والخطوب والحوادث، من خلال التربية الصحيحة للنشء على هذه المرتكزات والعواصم من الفتن القواصم، وليكن لنا في التاريخ عِبرة، قبل أن تُسكَب العَبرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *