بالأمس القريب استيقظ ابني عبدالرحمن الذي لم يتجاوز عمره السنة و النصف من نومه ، و كان هناك شعاع ضئيل من أشعة الشمس يتسلل من خلال كُوَّة بجانب جهاز التكييف ، و لاحظت أن هذا الطفل نظر نظرة سريعة إلى ذلك الشعاع و بنظرة أسرع إلى سقف الغرفة باحثاً عن مصدر هذا الشعاع .. عقله الصغير لم يجعله يدرك و يتبين الأمر بعد ، فلم يلاحظ الكُوَّة التي دخل منها هذا الشعاع ثم استأنف لهوه و لعبه ..
و في الحقيقة لقد استوقفني هذا المشهد و أخذت أدير الفكر في هذا الأمر ..
إن هذا الطفل أدرك بالفطرة أنه لا بد أن يكون هناك مكان قد قدم منه هذا الشعاع .. و كأنه يقول بعقله الغض “من المستحيل أن يكون هذا الشعاع مصدره هذه الغرفة أو أنه جاء من العدم أو صنعته الصدفة ، لا بد أن يكون هناك سبب و مكان هو المصدر لهذا الشعاع .. فالفطرة السليمة تأبى إلا أن تجعل لكل شيء سبب ..
ثم تسائلت لماذا يوجد أناس يفنون أعمارهم كلها في البحث و العلم ، ثم يهديهم شيطانهم أن هذا الكون كله بسمواته و أرضه ، و هذا الفضاء الواسع و النجوم و الكواكب ، و أبعادها التي تحسب بالسنوات الضوئية ،و الثقوب السوداء الهائلة .. إنما وجدت كلها بمحض الصدفة أو جاءت من العدم هكذا بدون موجد أو صنعته الطبيعة الصماء … مع أن الفطرة تقول خلاف ذلك و كما قال الأعرابي قديماً ( البعرة تدل على البعير و الأثر يدل على المسير سموات ذات أبراج و أرض ذات فجاج و بحار ذات أمواج ألا يدل ذلك على العلي القدير ) ..
كيف يدرك عقل طفل غرير هذه الحقيقة و تغيب عن بعض فطاحلة العلم .. و ذلك يعود إلى أن الانسان يغتر بعلمه و لا يرد هبة العلم إلى المنعم عز وجل ، و تبنى مبدأ قارون ( إنما أوتيته على علم عندي ) ، و اتباع الهوى و الانغماس في الشهوات و ارتكاب المعاصي و الفواحش و الخوف من المسائلة .. لأن النفس الانسانية و الضمير الانساني يُقلق كل آثم بوخز الضمير و من ثم يهرب من محاسبة النفس إلى إنكار الموجد ، و قد قال الله سبحانه و تعالى في شأن هذا ( بل يريد الانسان ليفجر أمامه يسأل أيان يوم القيامة ) …. استعداداً و تهيئة النفس للإفلات من العقاب بإنكار الحق حتى و هو ظاهر للعيان ، كمن يريد تغطية الشمس بغربال ، و يخالف الفطرة و يذل عقله ..
الفطرة تقول بما لا مجال للشك أو الريب أن الكون كله ملك واحد أحد فرد صمد لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفواً أحد .. لا تسقط ورقة إلا باذنه و بقدرته و تقديره ..
الفطرة هي دين كل المخلوقات .. عليها جبلت و بها استدلت على الخالق جل و علا ..و قول بعض الملحدين أن الانسان يقوم وحده هو هراء مهما حاولوا وضع أدلة على باطلهم فالباطل يظل باطلاً و الحق يظل حقاً ..
فليقف كل إنسان وقفة صدق مع نفسه و يتأملها أولاً ، و يتأمل هذا الملكوت ثم يجرد النفس و الرأي من الهوى و يحاول جهده أن يزيل الغشاوة التي يسدلها الشيطان ، و الران الذي يغطي القلب و يحجبه عن رؤية الحقيقة هنا ، فتتجلى عناية الله و عونه و تقف في صف من أراد الحق ضد كل شياطين الانس و الجن ، فتشع النفس بنور الإيمان و اليقين و تطمئن و تسلم القيادة إلى بارئها و موجدها …
و بدون ذلك لا يمكن أن يكون هناك أمان للنفس الانسانية … و صدق الله العظيم إذ يقول في شأن هؤلاء الجاحدين المنكرين ( ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين ( 20 ) وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ (21) ) ..
قال الشاعر الباكستاني محمد إقبال :
إذا الايمان ضاع فلا أمان …
ولا دنيا لمن لم يحي دينا ..
و من رضي الحياة بغير دين ..
فقد جعل الفناء لها قرينا ..
اللهم أرنا الحق حقا وأرزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا اجتنابه … و رزقنا الله و إياكم إيماناً نجد حلاوته في قلوبنا فاقبضنا إليك غير مفتونين و لا فاتنين .. إلَهَنا .. و خالِقنا .. و صلى الله وسلم على نبينا محمد ، و على آله و صحبه و سلم .
إبراهيم يحيى أبو ليلى
مقالات سابقة للكاتب