شَرف الخصومة والفُجر فيها 

الحمدُ لله وحدهُ ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على من لا نبي بعده ، وبعد
قال ابن عبد ربه الأندلسي صاحب كتاب العقد الفريد : ( اختيار الكلام أصعب من تأليفه ) ، وقد اخترت اليوم أن أتكلم بكلام عن شَرف الخصومة والفُجر فيها

فكم يؤرقني موضوع الخصومة بين النَّاس والفُجور فيها ، وتحديداً من نوى أن يجعلني طرفاً في خصوماته وَمَعاَركه ، وأن تكون مصيبتك في النزاع والخصومة مع الحاذق في الخصومة بالباطل .

ذلك أنَّ من أشد العجب أن ترى بعض النَّاس في خصوماتهم مع غيرهم يميلون ميلاً عظيماً عن الحق فَيَفْجُرونَ في خصوماتهم .

“إنَّ شرفَ الخصومة يا سادة من ثوابت القيم العربية في الجاهلية والإسلام ؛ فللخصومة مواثيق شرف لا يعرفها إلا الفرسان وأصحاب القيم والأخلاق ” .(بتصرف يسير عن مقال الخصومة بشرف ، للدكتور موفق العجلوني )

إنَّ الخصومة بين الناس في هذا الزمن أمرٌ واقعٌ لا محالة بينهم إلا من رحم ربي؛ لأن َّ كثيراً من الخلطاء؛ ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم.

الخصومة بين الناس ضرورة من ضرورات الاجتماع ؛ لأنَّ الظلم من صفات بعض النفوس، وكل إنسان مُحِبٌّ لذاته، حريص على الاستئثار بالخير لنفسه؛ فلابدَّ في هذا المجتمع الإنساني من ظالم ومظلوم، ومُعتدٍ ومُعتدًى عليه، ومُحِقٌّ ومُبْطِل؛ فلابدَّ من الخصومة .

لقد نهى الإسلام عن الفجور في الخصومة وجعلها علامة من علامات النفاق الخالص، وفي توضيح معنى “الفجور في الخصومة” أن تنسب لشخص ما ليس فيه من صفاتٍ وأفعالٍ، وَتُلفق إليه الرذائل والسيئات جِزافاً وَرجماً بالغيب أو حتى تختلقها من اللامكان لكي تنال منه ومن شخصه أمام الآخرين ؛ لكي تحقق شهوة الانتقام ، وتفوز في معركة الدنيا وتنسى خسران معركة الآخرة .

ولقد سمَّى الله تعالى في كتابه الكريم الفُجر في الخصومة لَدداً قال تعالى : ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ ] سورة البقرة : الآية 204[

والألد الشديد اللدد أي الجدال، مشتق من اللديدين وهما صفحتا العنق، والمعنى أنه من أي جانب أخذ من الخصومة قوي .

وفي الإسلام تعد خصله الفُجر من خصال النفاق عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ” أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ “. (صحيح البخاري 34، صحيح مسلم 58)

قال الحافظ ابن حجر الفجور هو : الميل عن الحق والاحتيال في رده.

والمراد أنَّه إذا خاصم أحداً فعل كل السبل غير المشروعة، واحتال فيها حتى يأخذ الحق من خصمه، وهو بذلك مائل عن الصراط المستقيم. ( ابن حجر: فتح الباري (1/90) .

فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إنَّ أبغض الرِّجال إلى الله الأَلَدُّ الخَصِمُ “. (صحيح البخاري 2457، صحيح مسلم 2668)

قوله صلى الله عليه وسلم : (الألد) جمعه اللدد: وهو الأعوج في المناظرة الذي يروغ عن الحق، وهو المعوج عن الحق المولع بالخصومة والماهر بها. والألد في اللغة الأعوج.

وقوله: (الخصم) الحاذق بالخصومة والمذموم هو الخصومة بالباطل في رفع حق أو إثبات باطل.

والأَلَدُّ: الشديد العَسَفِ في خصومته. والخَصِمُ: المُولَعُ بالخصومة، الحريصُ على استمرارها وفتح أبواب لها.وأقل ما يفوته في الخصومة طيبُ الكلام.

ومن هذا نفهم الحكمة البالغة في هذا الحديث .
والفَاجر في الخصومة يسبق لسانه عقله وطيشه حلمه وظلمه عدله، لسانه بذيء وقلبه دنيء، يتلذذ بالتهم والتطاول على الناس بغير وجه حق والخروج عن المقصود.

والبحث عن عيوب الناس ، وَيُظهر هو أنَّه صاحب القيم والأخلاق والمبادئ ” فبمجرد أن تختلف مع مثل هؤلاء كن مستعدًا لتلقي سهامهم نحوك، يفضحون أسرارك، ويرموك بالإفك، ويحرفون الحقائق، ويتناسون كل موقفا أو جميلا قدمته لهم، وكأنهم أشخاصا آخرين غير هؤلاء الذين كنت تعاملهم من ذي قبل، لتتوالى الصدمات عليك “.( أخلاقنا الجميلة .. شرف الخصومة ، محمود عبد الراضي )

ومن أشد أنواع الفُجر الخصومة بين الأزواج بعد الطلاق من خلال محاولة كل طرف تشويه سمعة الطرف الآخر، ونعته بأبشع الألفاظ والصفات، وتلفيق الاتهامات الكيدية له خاصة أمام القاضي وفي جلسات المحكمة .

وأيضاً الفُجر في الخصومة بين الإخوة وما بين الأقارب يستخدمون كل أدواتهم الخبيثة للتشويه والنيل من الطرف الآخر، مما يؤدي إلى نفور وخصومة لسنوات طويلة ، وبين الأصدقاء إذا تخاصموا في ما بينهم .

أيها الناس :
علينا أن نحتكم لشرف الخصومة في خصوماتنا التي لا بدَّ منها إلى الشرع الحنيف
ذلك إنَّ انعدام الشرف في الخصومة أصبح كارثة تهدد المجتمعات وتجر عليها الويلات ، وأدى إلى التحاسد والتباغض ، والتقاطع والتدابر ، والكبر والعُجب

والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

مقالات سابقة للكاتب

تعليق واحد على “شَرف الخصومة والفُجر فيها 

ابوهزاع

جزاكم الله خير واثابكم احسن الثواب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *