الحمدُ لله ، والصَّلاة والسَّلام على من لا نبي بعدهُ ، وبعد..
ابنتي الكبيرة جيَّاشة العواطف مُرهفة الأحاسيس ، متزوجة ، ولها أبن صغير – حفظهما الله جميعاً – قد تأثرت كثيراً بزلزال تركيا وما أصاب سوريا من فقد للأرواح ، وخاصة مناظر الأطفال الصرعى ، سألتني عن حكمة الله في إنزاله البلاء على من هم أصلاً في بلاء وشقاء .
فقلت لها بداية : من النَّاس من يفهم أنَّ المصائب التي يتعرضون لهم في حياتهم الدنيا على أنَّها محطَّات تقهقر وتراجع، أو للانتقام والإهانة، دون أن يستنبطوا الحكم الكثيرة التي أسرَّها الله سبحانه وتعالى في هذه المصائب.
ولذلك يُفتن بعض النَّاس عند رؤية ومشاهدة عذاب الله الذي يجريه على عباده أو يقع على نفسه أو أهله ؛ فقد يقولها على استحياءٍ ، ومنهم من أعلنها لغيره ، ومنهم من أسرَّها في قلبه : لماذا يُعذب الله تعالى النَّاس على ما فيهم من بلاء ومصائب وفقر وجوع ؟
وقد يولَّد ذلك عنده سوء ظنٍّ بربه تعالى ويولَّد عنده شعور بالإحباط ، واليأس ؛ فيستسلم للشيطان ،ويبتعد عن الله تعالى.
وكتوطئة للإجابة نقول :
على المسلم أن لا يتهم ربه ، ولكن عليه أن يتهم نفسه وعليه أن ينظر في أعماله وسيرته حتى يصلح من شأنه، وحتى يستقيم على أمر ربه.
فالمصائب من سُنن الله تعالى في الكون، وكل إنسان لابدَّ أن يصاب بشيء منها، يقول تعالى: ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين) سورة البقرة 155
ومن أصول الإيمان أن نعتقد أنَّ الله تعالى حكيم في جميع أفعاله؛ لا يفعل شيئًا إلّا لحكمة تامّة؛ عَلِمَها مَنْ عَلِم، وجَهِلَها مَنْ جَهِل؛ ومن ذلك إنزال البلاء بالعباد؛ فاللهُ تعالى لا يُنْزِل البلاءَ عبثًا، حاشاه -سبحانه-، وإنما يُنْزله لحِكَمٍ عظيمة جليلة بيّنَها في كتابه وسُنة نبيّه -صلى الله عليه وسلم-.
كما أنَّ الله تعالى أرحم بعباده من أنفسهم، وهو سبحانه أعلم بمصالحهم، فهو يدبر الأمر بحكمته ورحمته، وفضله فما يقدره لهم خير مما يتمنونه ويرجون وقوعه، وقد قال سبحانه تعالى ]: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 216.
وقد ابتلى الله تعالى الأنبياء والمرسلين، وهم ليسوا عصاة ولا مذنبين فيُظنّ أنَّ ابتلاءهم عقاب لهم، وقد غفر اللهُ لرسوله -صلى الله عليه وسلم- ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، ومع ذلك كان -صلى الله عليه وسلم- أشدَّ الناس بلاءً، وكان ذلك في أغلب أحوال الأنبياء لرفع درجاتهم وليتأسَّى الناس بصبرهم وحُسن بلائهم.
فليس من الحتم أن يكون ما نزل بالمؤمنين من البلاء عقوبة؛ بل قد يكون خيرًا لهم؛ إمَّا لرفع درجاتهم، وإمّا لتمحيصهم وإخلاص قلوبهم لله تعالى .
فلا تحزني يا ابنتي على ما أصابهم ؛ فإنما يبتلي الله من يحب، والله تعالى ما ابتلاهم إلا لأنَّه أراد الخير لهم في دنياهم وآخرتهم، فيغفر به ذنبهم، أو يرفع قدرهم ، وإن ما يراه الإنسان مُصيبة قد لا يكون في الحقيقة كذلك، لأنَّ الإنسان قد يرى جانباً من الأمر، وتخفى عليه جوانب أخرى أكثر أهمية، ثم يكتشف مع مرور الوقت بعض الجوانب الحسنة لما حدث. وقد يصل إلى قناعة أحياناً أن ما حدث كان خيراً ولم يكن مصيبة .
ابنتي الغالية :
قد يكون الإنسان ما فقده من نعم أو ما تعرَّض له من مصيبة سبباً للجوء إلى الله وحصول السبب للاشتغال بالدعاء والاستغفار، وكثير من الناس لولا النوازل والمصائب التي أصابتهم ما رأيتهم رافعين أكف الدعاء .
قال صلى الله عليه وسلم : ما يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِن نَصَبٍ ولَا وصَبٍ، ولَا هَمٍّ ولَا حُزْنٍ ولَا أذًى ولَا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بهَا مِن خَطَايَاهُ ، فصبرٌ جميلٌ، والله المستعان.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
د. منذر القضاة
مساعد عميد كلية القانون
في جامعة عمان العربية
مقالات سابقة للكاتب