الحمدُلله الذي يسوق لنا من الأقدار أَخيرها، ومن الفرص أثمنها، ومن الأرزاق أَطيبها، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبهِ أَجمعين.
أما بعد:
فيقولون: في إفريقيا يستيقظ الغزال في الصباح وهو يدرك أنه يجب أن يكون أسرع من أسرع الأسود؛ لأن الغزال إذا لم يكن كذلك فستأكله الأسود، وكذا الأسد لابد أن يكون أسرع من الغزال لأنه إذا لم يكن كذلك فلن يستطيع أن يظفر بالغزال ليكون طعامًا له.
ليس المقصود من هذه المقدمة أن تكون غزالًا أو أسدًا، إنما المقصود أن تكون أسرع من غيرك في إقتناص وصناعة الفرص، لأن الفرص لاتعود ولاتتكرر، فهي كما قيل: تأتي متنكرة وتذهب ساخرة، وهي سريعة الفوت وقليلة العود، وهذا هو السرُّ وراء تضييعها من قبل الكثيرين.
ولكن أصحاب المبادرات هم الذين يوفَّقون لاقتناصها في الوقت المناسب، ولذلك فإنّهم وحدهم المنتفعون بها دون غيرهم.
بَادرِ الفُرصَةَ واحْذَرْ فَواتَهَا
فَبُلوغُ العِزِ فِي نَيلِ الفُرَصْ
واغْتَنِمْ عُمْركَ إبّانَ الصِبَا
فهو إنْ زَادَ مَع الشيبِ نَقص
وابْتَدِرْ مَسْعَاكَ واعْلَم أنْ مَن
بَادرَ الصَّيدَ مع الفَجرِ قَنَصْ
إنَّ إغتنام الفرص واقتناصها منهجٌ نبوي رسمه لنا سيد البشرية ومنظمها ﷺ فقال: «اغتَنِم خَمسًا قبلَ خَمسٍ، حياتَك قبلَ موتِكَ، وصحَّتَك قبلَ سِقَمِك، وفراغَك قبلَ شُغُلِكَ، وشبابَكَ قَبلَ هَرَمِك، وغناكَ قبلَ فقرِكَ».[رواه الحاكم، وصححه الالباني]
فهذا إرشاد منه ﷺ إلى إغتنام الفرص.
والمتأمِّل في حال النبي ﷺ يجد أن انتهاز الفرص واغتنام الأوقات كان هديًا راسخًا وسِمةً ثابتةً له ﷺ.
فحين قَدِمَ إلى المدينة وأُتِيحَتْ له الفُرصةُ بادَر بتقسيم الأعمال، ومكَّن أصحابَ المواهب وهيَّأ لهم الفرصَ؛ فبلالٌ لرفع الأذان، وخالد بن الوليد لنصرة الدِّين بالسِّنان، وأما نُصرة الدين بالشعر والبيان فكان النصيب الأكبر فيه لحسان، رضي الله عنهم جميعا وأرضاهم.
وأما الصحابة فقد عظمت مراعاتهم ، لذلك فشمروا عن ساعد الجد في اقتناص الفرص واستثمارها، فقد جاء في الصحيحين، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، لما ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن سبعين ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، قَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ رضي الله عنه فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: (( اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ ))، ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: (( سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ )).
تأمَّل كيف بادر عكَّاشة رضي الله عنه وأرضاه، واغتنم هذه الفرصة، ففي لحظة واحدة، فاز بدخول الجنَّة، من غير حساب ولا عذاب.
فصاحب الهمة العالية، من يصنع لنفسه الفرصة، ولا ينتظرها تطرق بابه، بل يبادر في تحصيلها، سواء كان ذلك في أمر الدنيا أو الآخرة،
شُجاعٌ إذَا مَا أمْكَنَتْنيَ فُرْصَةٌ
وإنْ لَمْ تَكُنْ لِي فُرْصَةٌ فَجَبَانُ
ومن القصص المشهورة في هذا المقام التي ربّما قد قرأها الكثير، لكن في إعادتها حتمًا إفادة، وهي قصة المليونير “بيل جيتس”.
ففي إحدى المقابلات التلفزيونية مع هذا الرجل الذي يُعد من أغنى أغنياء العالم، سألته المذيعة ما سر نجاحك؟ لم يردّ عليها، بل مدّ لها شيكًا، وطلب منها أن تكتب المبلغ الذي تريده وسيكون ملكًا لها.
لكن المذيعة انحرجت وأكدت أنها لم تقصد ذلك، عاد “بيل” وقدّم لها الشيك مرة أخرى طالبًا منها أن تكتب المبلغ الذي تريد، لكنها امتنعت للمرة الثانية، فأجابها “بيل” سبب نجاحي أنني أستغل الفرص التي تأتيني، ولا أردّها كما فعلتي.
فندمت المذيعة وطلبت إعادة الحلقة، فأجابها: يمكننا إعادة الحلقة لكن الفرصة لن تعود..!
إِذا هَبَّت رِياحُكَ فَاِغتَنِمها
فَعُقبى كُلُّ خافِقَةٍ سُكونُ
وَإِن دَرَّت نِياقُكَ فَاِحتَلِبها
فَما تَدري الفَصيلُ لِمَن يَكونُ
إنَّ صناعة الفرص حينما تحين يكون قد انتهى الوقت للاستعداد، يعني حتى لاتندم على فرصة قد تضيع منك، فلابد أن تستعد لها من الآن، لأن الفرصة إذا طرقت الباب، لاينفع أن تستعد لكي تفتح الباب؛ فلابد أن تكون مستعد لفتح الباب من قبل أن تأتيك الفرصة، فالفرص كسحابة صيف، غنية بالمطر، جميلة في المنظر، ولكنّها سريعة في المسير، فمَن أراد منها الماء فلابدّ من أن يبادر قبل أن يأتي السحاب، فيُهيئ وسيلته، مُتطلعًا نحو الأُفق، منتظرًا أخباره، فإذا هطل المطر كان له النصيب الأوفر، أمّا مَن يبحث عن الوسيلة، بينما السحابة تمرّ فوق رأسه، متثاقلاً في حركته، فإنّه يضيع على نفسه أمرين: الوقت والمطر.
وكما قيل: ابحث عن الفرص التي تحقق أهدافك، فإن لم تجدها اصنعها، فحتمًا إنك لن تخسر بالاستعداد المُسبق شيئاً، أن يكون لديك المهارة والمتطلب الكافي واللازم لانتهاز هذه الفرصة.
فصناعة الفرص واستغلالها لا يأتي إلا من أشخاص مستعدين الآن لها فلديهم كل ما هو مطلوب لاستغلالها من مهارة، ومعرفة، وسلوك.
لذا نجد الفرق بين الناجحين في اغتنام الفرص والفاشلين في ذلك ليس في أن الناجحين يجدون فرصًا، والفاشلين لا يجدونها، بل إن الناجحين أسرع من الفاشلين في الاستعداد.
يقول الشيخ علي الطنطاوي – رحمه الله- : إن الذي لا يقفز إلى الفريسة تفلت منه، ومن لا يغتنم الفرصة في وقتها لا يجدها، ومن لايضرب الحديد حاميا لا يستطيع أن يضربه إذا برد، والذي يؤجل ما يجب عليه لا يقدر أن يؤديه كاملًا.
وفي الختام: تبقى الطريق هي الطريق، لكن تتفاوت الأَقْدَامُ في الإِقْدَام، فالمتكاسل يرى الصعوبة في كل فرصة، أما المبادر فيرى الفرصة في كل صعوبة.
وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
حسن مهدي قاسم الريمي
مقالات سابقة للكاتب