الحمدُ للهِ الذي خلق الزمان، وفضَّل بعضه على بعض، فخص بعض الشهور والأيام والليالي بمزيد من الشرف والفضل، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فها هي الأشهر الحرم قد دخلت بدخول شهر الله المحرم شهر ذي القعدة، والمتأمل في أحوال هذا الكون، يجد أنَّ من أعظم الدلائل على وحدانية الله، وأكبر الشواهد على ربوبيته وكمال حكمته وعلمه وقدرته، أنه جل وعلا يختار ما يشاء من الأشخاص والأمكنة، ويختص ما يريد من الأشياء والأزمنة، لمقاصد عُظمى تقوم عليها مصالح العباد، فلا شريك له سبحانه يختار كاختياره، ويدبر كتدبيره، قال- جل في علاه -: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:٦٨]
ومن الأزمنة التي اختارها الله وعظَّم شأنها الأشهر الحرم، وهذا التعظيم منصوص عليه في الكتاب مجملًا، وفي السنة مفصلًا، قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } [التوبة: ٣٦].
فسكت سبحانه عن بيان هذه الأربعة الحرم، وجاءت السنة وبينتها، – وهذا مما يسميه العلماء الإجمال الذي بينته السنة-.
وهذه الأشهر الحرم التي بينتها السنة ثلاثة منها سرد، أي: متتابعة، وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد فرد وهو رجب الذي كانت تعظمه قبيلة مضر وقد جاء هذا في حديث النبي ﷺ حيث ورد عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ خطب في حجة الوداع، فقال: (إنَّ الزمانَ قد استدارَ كهَيئتِه يوم خلَق الله السمواتِ والأرضَ؛ السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعةٌ حُرُم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرَّم، ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان).[متفق عليه]
وسميّت هذه الأشهر حُرمًا لزيادة حرمتها، وتحريم القتال فيها، حيث كانت الجاهلية تعظمها، وتحرِّمها، وتحرِّم القتال فيها، حتى لو لقي الرجل منهم فيها قاتل أبيه لم يتعرض له، نظرًا لحرمتها وتعظيمها ومكانتها عندهم.
وخُصت هذه الأشهر الحرم بأحكام وفضائل وخصائص عديدة منها:
أولًا: تحريم ابتداء القتال فيها على الصحيح.
قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللهِ…}. [البقرة: ٢١٧]
ثانيًا: أن الظلم فيها أشد تحريمًا من غيرها من الشهور، قال الله تعالى: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}.
[التوبة: ٣٦]. لأنها آكدُ وأبلَغُ في الإثم من غيرها.
فينيغي ترك المحرمات واجتناب سائر المعاصي، والبعد عن كل المظالم ويشمل ذلك: مظالم الدماء، ومظالم الأعراض، ومظالم الأموال.
ومن أعظم الظلم الذي ينبغي أن يُجتنَب الشرك بالله – عز وجل – كما قال لقمان لولده في وصاياه {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}. [لقمان: ١٣].
ثالثًا: من فضائلها أن أعمال الحج كلها تقع في ذي الحجة، قال تعالى:
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}. قال البخاري: قال ابن عمر: هي شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة.
رابعًا: أن فيها يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم القر، وأيام التشريق، وهي من أعظم الأيام عند الله، وعيد أهل الإسلام، روى أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن قرط أن النبي ﷺ قال: (إِنَّ أَعْظَمَ الأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ تَعَالى يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ).[وصححه الألباني].
خامسًا: أن فيها صيام شهر الله المحرم، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: (أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ).[رواه مسلم]
سادسًا: خصها الله بالذكر من بين سائر الشهور تعظيمًا وتشريفًا لها.
قال القرطبي رحمه الله: “خص الله تعالى الأربعة أشهر الحرم بالذكر، ونهى عن الظلم فيها تشريفًا لها، وإن كان منهيًا عنه في كل زمان.
سابعًا: أن جميع عمرات النبي ﷺ الأربع كانت كلُّها في شهر ذي القعدة.
ولذا أفتت اللجنة الدائمة وكذلك سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله بأن عمرة ذي القعدة هي التي تلي عمرة رمضان في الفضل.
ثامنًا: ذهب جمهور أهل العلم على استحباب الصوم فيها، لأن الصوم يبعد الإنسان عن الظلم، قال تعالى: (فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ)، [التوبة: ٣٦] فهناك من الأيام ماجاء الشرع بالحث على الصوم فيها كعشر ذي الحجة ومحرم.
تاسعًا: مضاعفة الحسنات والسيئات في الأشهر الحرم، يقول الشيخ بن عثيمين – رحمه الله -: “من العبارات المشهورة عند العلماء قولهم تضاعف الحسنة في كل زمانٍ ومكانٍ فاضل، فأرجوا أن تكون الطاعة في الأشهر الحرم مضاعفة كما أن المعصية في الأشهر الحرم أشد وأعظم”
وأما السيئات؛ فالذي عليه المحققون من أهل العلم أنها لا تضاعف من جهة العدد، ولكن تضاعف من جهة الكيفية، بمعنى: أن العقوبة تكون أشد وأوجع، والدليل أنها لا تضاعف كمية قوله تعالى: {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}. [الأنعام:١٦٠].
وختامًا: إذا كان أهل الجاهلية يعظمون هذه الأشهر فحريٌّ بالمؤمن الموحد المعظم لله ورسوله أن يكون أولى بتعظيمها، فينبغي علينا ونحن نعيش في هذه الأشهر الحرم التي عظَّمها الله في كتابه، أن نعظم ما عظمه الله في كتابه، فإن تعظيمنا لها عبادة قلبية، ومن أجل العبادات التي نسأل الله قبولها، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: ٣٢].
أسأل الله جل في علاه أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يعيننا على أنفسنا بالخشية منه سبحانه إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين، وصلَّ الله وسلمَ على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
حسن مهدي قاسم الريمي
مقالات سابقة للكاتب