الحمدُ للهِ الذي شَرَعَ العبادات لمقاصدَ عظيمة، وأسرار بليغة، وفوائد جليلة.
والصلاة والسلام على من أظهر هذه المقاصد وجلّاها، وبيَّن المصالح وأعلاها وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن لكل عبادة في الإسلام مقاصد وغايات جليلة، فإذا لم تتحقق أهم تلك المقاصد والغايات فإن العبادة تفقد جزءًا من روحها وجوهرها النفيس، ومقصدها الذي من أجله شرعت، فإذا فقدت العبادة روحها ومقصدها، سنخسر أثر التلذذ بالعبادة أثناء أدائها لأن التلذذ بالعبادة ينسي متاعبها. وسنخسر الأثر المستدام الذي أراده الله من العبادات، أَنْ تُصْلح حَياةَ العَبْدِ، وتُقَيِّم سُلوكه، وتُهذب أخلاقياتهِ وتُصحح من مَسِيرهِ في الحياة.
ومن تلك العبادات شعيرة الحج التي تضمَّنت مقاصد عديدة متنوعة عقدية وتربوية واجتماعية واقتصادية.
هذا التنوع المقاصدي يُشكل للحاج مدرسة إيمانية، ومَعْلم طريق في حياته، وحدثٌ تاريخي يلهج بذكره.
وحري بنا ونحن في هذه الأيام التي يتوافد فيها المسلمون من كل بقاع الأرض إلى الأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج، أن نقف على بعض مقاصد هذه العبادة التي نحتاجها اليوم على مستوى الفرد والأمة، لأن فھم مقاصد العبادة یقوي في النفس تعظیمھا، وحضور القلب عند القیام بھا، وممّا أضعف أثر الحج في نفوس بعض المسلمين هو الانشغال كثيرًا بالجانب الفقهي لأدائها، وعدم الانتباه والتدبر للجانب المقاصدي لهذه الفريضة العظيمة. فظهرت كثير من الصور السلبية التي أثرت على الجانب المقاصدي لشعيرة الحج.
فمن تلك المقاصد الجديرة بالتأمل والاهتمام:
المقصد الأول: تحقيق التوحيد لله تعالى:
فأعظم مقاصد الحج العقديّة أنه يُذكِّر الإنسان بوظيفته الحقيقية في هذه الحياة وهي: توحيد الله – سبحانه وتعالى – وإفراده بالعبادة، وإنَّك لترى مظاهر هذا المقصد واضحةً جليَّةً في حجة النبي – ﷺ – في كل عمل من أعمال الحج منذ أن ينوي فيخلص النية لله إلى أن ينتهي.
ومن أهم معالم التوحيد:
أولًا: التلبية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد، والنعمة، لك، والملك، لا شريك لك.
ثانيًا: سؤاله – ﷺ – الله الإخلاص، قائلاً : (اللهم حجة، لا رياء فيها ولا سمعة).
ثالثًا: قراءة سورتي التوحيد: العملي، والعلمي: الكافرون، والإخلاص، في ركعتي الطواف.
رابعًا: توحيده – ﷺ – لربه على الصفا والمروة: “لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده “.
خامسًا: الدعاء، وهو من أعظم مظاهر التوحيد، وقد وقع ذلك للنبي – ﷺ – في ستة مواقف: على الصفا، وعلى المروة، وفي عرفة، وفي المزدلفة، وبعد رمي الجمرة الصغرى، وبعد رمي الجمرة الوسطى، في سائر أيام التشريق.
المقصد الثاني: الإخلاص لله:
الإخلاص لله تعالى هو أحد شرطي قبول العمل، فلا يُقبل عملٌ إلا إذا كان خالصًا لله سبحانه وتعالى.
وهذا المقصد وإن كان داخلًا في المقصد الأول إلا أنه أخصُّ منه، فإن الحج من أعظم مقاصده أن يكون خالصًا لله، وأداؤه لوجه الله، لا يريد الحاج بذلك رياءً ولا فخرًا ولا سمعة، لأن الحج من الأعمال التي يداخلها الرياء من أوجه كثيرة، إما بكثرة النفقة أمام الناس، أو بكثرة الحاشية والأتباع، أو بكثرة الحج وتكراره مع إشاعة ذلك والتباهي به، ولذلك كان أكمل الناس وأفضلهم محمد – ﷺ -.
كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: حجَّ النبي – ﷺ – على رحل رث، وقطيفة تساوي أربعة دراهم، أو لا تساوي، ثم قال: (اللهم حجة، لا رياء فيها، ولا سمعة).[أخرجه ابن ماجه]
المقصد الثالث: تحقيق الانقياد والاستسلام لله والاتباع للنبي – ﷺ- :
فمن أجلِّ مقاصد الحج تحقيق الاستسلام والانقياد لله سبحانه وتعالى ولشرعه، فوقت الحج ومكانه وترتيب شعائره ومواقيته كلها يتجلى فيها التسليم لله سبحانه وتعالى.
وأما مقصدُ الاتِّباع، الذي هو الشطر الثاني لقبول العمل، فقد حثَّنا على تحقيقه النبي – ﷺ – حيث قال: (لتأخذوا مناسككم؛ فإنِّي لا أدري لعلي لا أحجُّ بعد حجتي هذه)،[أخرجه مسلم].
ومن أعظم مظاهر الاتباع: استلام الحجر الأسود، فليس في ذلك إلا الاتباع للنبي – ﷺ – كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنِّي أعلمُ أنك حجر، لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أنّي رأيت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقبِّلك ما قبلتك)، وكذلك يتجلّى الاتباع في الوقوف بعرفة إلى أن تغرب الشمس، والمبيت بمزدلفة ليلة العيد دون إحيائها، ورمي الجمار، وغير ذلك من أعمال الحج الكثيرة.
المقصد الرابع من مقاصد الحج العظيمة: أنه تتجلى فيه مظاهر المساواة، والوحدة الإسلامية في أبهى صورها، وأجلى معانيها؛ ويتضح ذلك من خلال الحجيج المجتمعين في صعيد واحد، ومظهر واحد، ومكان واحد، على اختلاف أجناسهم، وألوانهم، وتعدد ألسنتهم، ولغاتهم، يرتدون لباسًا واحدًا، ويعبدون إلهًا واحدًا، لا فرق بين صغير وكبير، وغني وفقير، ورئيس ومرؤوس.
قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: ٩٢].
المقصد الخامس: ربط المسلم بذكر الله:
فالذكر مِن أحبّ العبادات إلى الله – سبحانه – وأعظمها أجرًا، وقد ربط الله به كثيرًا من العبادات ومن أبرزها عبادة الحج، ويظهر ذلك واضحًا في ربط القرآن الحديث عن مناسك الحج بذكر الله في بعض المواضع منها قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ}. [ البقرة: ١٩٨].
وقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [ البقرة: ٢٠٠].
وقوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ}.
فالذِّكر هو رُوح الحج ولبُّه ومقصوده كما قال النبي – ﷺ – : (إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)
[أخرجه أحمد والترمذي وابو داود]
المقصد السادس: الحثّ على تعظيم شعائر الله – سبحانه وتعالى – ففي الحديث عن الحج قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} فشعائر الله هي أعلام دينه الظاهرة وأوامره ونواهيه التي تعبدنا بها، وتعظيم هذه الشعائر علامة على تقوى العبد وورعه.
المقصد السابع: شهود المنافع.
قال تعالى: {لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}، [الحج: ٢٨]
نص المفسرون على أن المنافع دنيوية وأخروية.
ومن المنافع الدنوية: التلاقي والتأخي والتعارف والتجارات والمكاسب والأرباح.
وأما منافع الآخرة: فرضوان الله.
وختامًا: الحج عبادة ومدرسة ورسالة حضارية رائعة ومقاصده كثيرة ومتعددة إقتصرت على أهمها بتصرف حتى نستحضرها في الأذهان فلا تغيب، فعندما تغيب مقاصده سنفقد التلذذ بعباداته، وينسلخ الحج من روحانيته فيصبح عبء يراد الخلاص منه، وتغلب مظاهر التدافع والتزاحم فتغيب معالم الرفق واللين والإحسان، ويقتحم الكثير من الحجيج لمحضروات الاحرام وهم يعلمون أنها محضورات، وتشاع مظاهر الفوضى، ومخالفة الأنظمة، ومخالفة التعليمات الرسمية التي تنظم عمل الحجيج، وترى بعض الممارسات المسيئة لبعض الحجيج، وبروز بعض المظاهر السلبية: سوء نظافة، تلوث بيئي، تلوث غذائي.
أسأل الله جل في علاه أن يتقبل من الحجاج حجهم وأن يحفظهم من كل سوء وأن يجزي كل من يقوم على خدمتهم خير الجزاء على ما يبذلونه من جهود إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين، وصلَّ الله وسلمَ على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
حسن مهدي قاسم الريمي
مقالات سابقة للكاتب