في ليلة من ليالي مِنَى

في إحدى ليالي أيام التشريق نزل بجانبي في منى ثلاثة نفر أو أربعة عليهم آثار السفر، ومسحة البادية، وأمارات الصلاح.

وما أن سلموا وخلعوا أحذيتهم، وافترشوا الأرض حتى أخلدوا إلى النوم، وكلما تعار أحدهم من الليل – ﺃﻱ: ﻫﺐ ﻣﻦ ﻧﻮﻣﻪ ﻭاﺳﺘﻴﻘﻆ – نطق بالشهادة ثم قال: ” اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات” ويعود بعد ذلك للنوم، وهكذا عدة مرات حتى اقترب الفجر فاستيقظ أحدهم وتوضأ وأيقظ أصحابه فصلى كل واحد منهم ما شاء الله أن يصلي، ودعا ما شاء الله أن يدعو، حتى طلع الفجر ، ونسيت الآن هل ذهبوا قبل الصلاة أم لا، لكن الذي لم أنسه حتى الآن هو ما جال بخاطري ودار بفكري وقتها، وساعات التأمل التي قضيتها تلك الليلة مع ذلك الموقف، حيث ظلت أفكاري يموج بعضها في بعض، فما أن يلتمس بعضها طريقه إلى الاستقرار حتى يلج عليه معنى آخر، وملحظ جديد من زاوية أخرى، فلا هي اتسقت وتكاملت، ولا هي افترقت وتنافرت، غير أنها بقيت عالقة في الذهن تنتظر الإفراج عنها لتنقل صورة لذلك المشهد حتى ولو كانت مشوشة ناقصة الوضوح.

فمما قفز إلى ذهني وجال بخاطري حينها عظم رحمة الله تعالى بالمسلمين حتى إنه ليسخر لهم من يدعو لهم بظهر الغيب، يدعو لمن يعرف ومن لا يعرف منهم، في وقت وحالة اجتمع فيها من أسباب إجابة الدعاء ما لا يخفى.

ثم تخيلت وقتها كم شخصاً من المسلمين تناله هذه الدعوات وبركتها من غير علم منه بها ولا بمصدرها ولا بوقتها ولا بمكانها!

وتخيلت ماذا ينال هذا الداعي من الخير بسبب هذه الدعوات التي دعا بها للمسلمين، والتي تنم عن صفاء قلب، ونقاء سريرة.

واستشعرت عظم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم التي بها يكون المرء أهلاً لأن تناله تلك الدعوات.

في تلك الليلة ازددت فهما لقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغفِرُ أَن يُشرَكَ بِهِ وَيَغفِرُ ما دونَ ذلِكَ لِمَن يَشاءُ وَمَن يُشرِك بِاللَّهِ فَقَدِ افتَرى إِثمًا عَظيمًا [النساء: ٤٨].

وازداد فهمي لقول  ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ: (( ﻓﺈﻥ اﻟﻠﻪ ﻗﺪ ﺣﺮﻡ ﻋﻠﻰ اﻟﻨﺎﺭ ﻣﻦ ﻗﺎﻝ: ﻻ ﺇﻟﻪ ﺇﻻ اﻟﻠﻪ ﻳﺒﺘﻐﻲ ﺑﺬﻟﻚ ﻭﺟﻪ اﻟﻠﻪ)) (١).

ورأيت مثالاً حيّاً لقول ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ:  ((ﻣﺜﻞ اﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ ﻓﻲ ﺗﻮاﺩﻫﻢ، ﻭﺗﺮاﺣﻤﻬﻢ، ﻭﺗﻌﺎﻃﻔﻬﻢ ﻣﺜﻞ اﻟﺠﺴﺪ ﺇﺫا اﺷﺘﻜﻰ ﻣﻨﻪ ﻋﻀﻮ ﺗﺪاﻋﻰ ﻟﻪ ﺳﺎﺋﺮ اﻟﺠﺴﺪ ﺑﺎﻟﺴﻬﺮ ﻭاﻟﺤﻤﻰ)) (٢).

وتخيلت عندها كم شخصا مثل هؤلاء النفر في جنبات المسجد الحرام وفي مشاعر الحج، وفي أرجاء المعمورة يدعو للمسلمين بهذه الدعوات وبغيرها!

وكم هذه الأمة مرحومة كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم (٣)، وتذكرت قول الله تعالى: ﴿ وَرَحمَتي وَسِعَت كُلَّ شَيءٍ فَسَأَكتُبُها لِلَّذينَ يَتَّقونَ وَيُؤتونَ الزَّكاةَ وَالَّذينَ هُم بِآياتِنا يُؤمِنونَ الَّذينَ يَتَّبِعونَ الرَّسولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذي يَجِدونَهُ مَكتوبًا عِندَهُم فِي التَّوراةِ وَالإِنجيلِ يَأمُرُهُم بِالمَعروفِ وَيَنهاهُم عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنهُم إِصرَهُم وَالأَغلالَ الَّتي كانَت عَلَيهِم فَالَّذينَ آمَنوا بِهِ وَعَزَّروهُ وَنَصَروهُ وَاتَّبَعُوا النّورَ الَّذي أُنزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ المُفلِحونَ﴾ [الأعراف: ١٥٦-١٥٧].

وازددت يقينا وقتها بأن أعظم نعمة أنعم الله بها على الإنسان هي أن هداه للإيمان برحمته وفضله ليناله بعد ذلك من فضل الله ورحمته ما اختص الله به أهل الإيمان دون غيرهم.

وتأملت عظم وصايا الأنبياء ودعواتهم  التي أخبرنا الله بها كوصية إبراهيم ويعقوب عليهما السلام في قوله تعالى: ﴿وَوَصّى بِها إِبراهيمُ بَنيهِ وَيَعقوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصطَفى لَكُمُ الدّينَ فَلا تَموتُنَّ إِلّا وَأَنتُم مُسلِمونَ﴾ [البقرة: ١٣٢]، ودعاء يوسف عليه السلام في قوله: ﴿رَبِّ قَد آتَيتَني مِنَ المُلكِ وَعَلَّمتَني مِن تَأويلِ الأَحاديثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالأَرضِ أَنتَ وَلِيّي فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ تَوَفَّني مُسلِمًا وَأَلحِقني بِالصّالِحينَ﴾ [يوسف: ١٠١]

ومما يشعر به المرء في ذلك الموقف القلق والخوف من التقصير  في واجب القيام بشكر هذه النعمة (نعمة الإسلام ) والقيام بحقها خشية أن يُسلبها الإنسان ويطمس الله على قلبه فيخسر الخسران المبين الذي لا فلاح بعده.

وإن تأمل مشهد كهذا وغيره مما تحفل به أيام الحج والانتفاع بما يحمله من رسائل لهو من المنافع التي يشهدها أهل الموسم.

ولا يكون من رأى كمن سمع.

رَبِّ أَوزِعني أَن أَشكُرَ نِعمَتَكَ الَّتي أَنعَمتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَن أَعمَلَ صالِحًا تَرضاهُ وَأَصلِح لي في ذُرِّيَّتي إِنّي تُبتُ إِلَيكَ وَإِنّي مِنَ المُسلِمينَ.

وصلى الله وسلم على من أرسله الله رحمة للعالمين.

محمد بن أحمد الأنصاري

—————
(١) البخاوي (٤٢٥)، ومسلم (٢٦٣).
(٢) صحيح مسلم: (٢٥٨٦).
(٣) في مسند الإمام أحمد وغيره ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻣﻮﺳﻰ ﻗﺎﻝ: ﻗﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ: (( ﺇﻥ ﺃﻣﺘﻲ ﺃﻣﺔ ﻣﺮﺣﻮﻣﺔ ﻟﻴﺲ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻓﻲ اﻵﺧﺮﺓ ﻋﺬاﺏ. ﺇﻧﻤﺎ ﻋﺬاﺑﻬﺎ ﻓﻲ اﻟﺪﻧﻴﺎ اﻟﻘﺘﻞ ﻭاﻟﺒﻼﺑﻞ ﻭاﻟﺰﻻﺯﻝ)). وصححه الألباني: سلسلة الأحاديث الصحيح الحديث: (٩٥٩).

مقالات سابقة للكاتب

تعليق واحد على “في ليلة من ليالي مِنَى

غير معروف

حفظك الله ورعاك اللهم إجعلنا من الذين تشملهم تلك الدعوات في ظهر الغيب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *