خطر خاطر كتابة هذه المقالة على نفسي منذ شهرين، ثم لم أستجب! لكني استجبتُ الآن بعد أن غلب على ظني النفع بهذا المكتوب إن شاء الله.
يحدث أن تقترح كتابا للقراءة على أصدقائك فيتعلل بعضهم بـ(كبر حجمه) بكثرة صفحاته، أو تعدد أجزائه.. وحين حدث مني مثل هذا الاقتراح تلقيتُ هذا التعليل، فما لبثتُ أن تذكرتُ أول كتاب قرأته – سبقته كتيبات وقصص لا أعدُّها بداية حقيقية – كان في المرحلة المتوسطة وهو كتاب من (488) صفحة.. إذ مكثتُ أقرؤه طوال الإجازة الصيفية (ثلاثة أشهر!) ومن بعدها أصبح قراءة كتاب كامل أمرا ممكنا عندي وليس مستحيلا!
والناس في القراءة درجات، مَن يقرأ الكتاب بالحجم العادي، ومَن يستطيع أن يقرأ المجلدات الطوال! وبين الدرجتين (حاجز وهمي) لابد أن يُكسر.
مرّت السنوات وأنا اقرأ الكتاب الواحد بتوفيق الله بِلا إشكال، حتى اضطررتُ في المرحلة الجامعية أن ابدأ قراءة كتبٍ ذات أجزاء؛ استعدادًا لمرحلة الماجستير التي أسعى لها. فكان أن بدأت في قراءة كتاب من (ثلاثة أجزاء). حين أنهيت الجزء الأول طرتُ فرحًا – مع متعتي – فبدأتُ الثاني فأنهيته، فالثالث.. فكان (كسر الحاجز الوهمي) الذي مَن يوفقه الله لكسره يُفتح له الطريق بإذن الله..
ومن الأهمية بمكان التأكيد على قراءة المطولات.. خصوصا لمَن له طموح علمي.. فما من مجال معرفي إلا وفيه موسوعاته الكبار، ومجلداته الضخام.. بل ومن القراء الكرام مَن بغير دراسة ولا بحث أدرك بفضل الله المطولات! فلا تسأل عن دفاتر فوائده، وعظيم حصاده {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
بعد هذه التجربة الأولى لم أخشَ الشروع في ذواتِ الأجزاء، وشدّ من عزمي وأخذ بناصية همّتي مسابقتَين التحقتُ بهما من تنظيم (قرّاء الجَرْد) على الانستغرام.. الأول في (ثلاث مجلدات) والثانية في (مجلدَين). وجدير بالذكر والإشادة على عظيم أثر المسابقات القرائية النافعة كثّر الله من معدّيها ومشتركيها.. حتى أني خرجتُ بفائدة أخرى! وهي أن (القراءة المجدولة) أدعى للاستمرار والمتابعة، فلا أنصح المبتدئين أمثالي بقراءة المطولات إلا بجدول.
ووفقني الله بعد المسابقتين لأخطط لبعض المطولات بالجداول، فكانت الثمرات يانعة، والتجارب محفزة. فمن واقع هذه التجارب أرجو أن يتحفز القارئ المعنيّ.. لخوض تجربة قراءة ذوات الأجزاء..
وحتى تبلغ النفس من الهمة أعلاها؛ أذكر بعض الفوائد (السلوكية) التي تذوقتها من هذه التجارب المتواضعة:
أولاً/ التربية على الصبر: فأنت أيها القارئ تتعلم أن تصل لقمة الإنجاز القرائي بعد أجلّ أجّلته –متوكلا على الله-.
ثانيًا/ التعلم الذاتي المتدرج المنظم: ربما يعاني البعض من الانتقاء القرائي، فلا يقرأ من الكتاب إلا ما تنقيه عيناه من فصول، ويترك الباقي! ولا أعني القراءة لغرض البحث، فهذه نهجها الانتقاء. أما ههنا فتُعلم نفسك التدرج في حصول المعلومة حتى يكتمل بناؤها.
ثالثًا/ التعامل بالأرقام والأوقات: فلو قررت تجربة القراءة المجدولة تكون قد جرّبت مذهب مَن يقسّم أقسامًا، ويخطط تخطيطًا للقراءة.. فتتعوّد على التخطيط، فتكتب الأيام بتواريخها، وتُقدّر لها من الصفحات ما يناسبها.
رابعًا/ التعود على الالتزام والانضباط: تضبطك الأرقام في الجدول، ويُلزمك التراكم أن تُعوِّض! فتعويض تلو التعويض، تُفضّل من بعدهم أن تلتزم، حتى يصبح الأمر يسيرًا معتادًا.
خامسًا/ تقوية روح التنافس الطيب: تقوى هذه الروح لو كانت مع كون الكتاب ذا أجزاء، أن يكون ضمن قراءة جماعية.. لعل أقلها اثنين! فيحرص كل قارئ أن لا يتأخر عن صاحبه. بل حتى المنفرد يستطيع أن يتحدى نفسه بالمطولات، فيكافئها إن ربح التحدي.
سادسًا/ الدعوة للخير وإيجاد القدوة: وكل كتاب تقرؤه بعامة فأنت تعلن عنه وتروج له – بشكل غير مباشر – عند مَن حولك! وإذا ما تحدثت عن الأمر في المجالس، أو شوهد جدولك.. لعلّ هذا كان استثارةً لداعي التنافس عند غيرك، ودعوة له للحاق بركبك. وما خوضي للتجربة بعد توفيق الله إلا من باب الدعوة غير المباشرة لمَن أتوسم فيهم الجادّة.
سابعًا/ كسر حاجز الوهم والخوف: وهم عدم القدرة، وخوف الفشل بالتوقف! فلو يسّر الله لك الإتمام، كسرت تلك الحواجز التي صنعتها لنفسك! فالمرء يهاب الشيء أول مرة ثم يعتاده خيرًا كان أم شرًا.
ثامنًا/ علو الهمة لمثله ولأكثر: وهذا يُعْلَم بالتجربة! فحين تنوي قراءة كتاب ذا جزئين – لأول مرة – تكون مترددًا، ضعيف الثقة بالإنجاز والإتمام! وبعد أن تنتهي تتقد عزيمتك لمثله، ويصغر ما استصعبتَه واستكثرتَه.
وأخيرًا استشعار التوفيق: بعد أن تنتهي.. وتتأمل في جدول خطتك، ومدى التزامك وجديتك، ستستشعر مِنّة الله عليك، بالتوفيق للإنجاز وطلب العلم، وتستشعر نعمته عليك بتيسيره لك استغلال أوقاتك فيما يفيد وينفع.. فهذه الثمرة مهمة جدًا! لعلك تتأمل فيها أكثر فتبذل من أنواع الطاعة ما تشكر به ربك.
و{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} وما كان مثلي ينصح لكم، ولكن هو من باب “أحبَّ لأخيك ما تُحبُّ لنفسك” والله الموفق.
جمانة ثروت كتبي
مقالات سابقة للكاتب