شاع في زمننا هذا ما يُسمى بـ “التمحور حول الذات” وعزز هذا الشيوع انتشار الكتب والمحاضرات والمنظرين لهذا التوجه.
وهذا الانتشار الذي يدور في فلك التمحور حول الذات يقدم وصفات جاهزة لتحقيق الأهداف الفردية -التي يغلب عليها ترجيح المصلحة الفردية- بصرف النظر عن تأثيرها على المجتمع.
وانتشار مفاهيم الذاتية عبر وسائل التواصل الاجتماعي يجعلنا متأثرين بها؛ مما يسهم في تعزيز القيمة الفردية للشخص وتجعله يدور في فلك نفسه بشكلٍ أناني، وجهده في ذلك أنه يحسب حساب المصلحة والنَّفْعيّة من أي علاقة إنسانية.
إننا بحاجة لوقفةٍ واعية؛ لوضع هذه المفاهيم في حجمها الحقيقي، وإزالة الهالة الكبيرة حولها، بعد انتشرتْ بين الناس انتشار النار في الهشيم؛ حتى تشكّلتْ في عقولهم أيدولوجية يسيرون وفق محتواها.
وتكمن خطورة مفاهيم الذاتية في أنها لا تساعد على تكوين علاقات دائمة، ولا على الحفاظ عليها، كما أنها لا تُقيم وزناً لقيم دينية، أو مجتمعية كالعادات والتقاليد، أو فردية كالصبر والتضحية والإيثار.
في المقابل تنحاز أدبيات الذاتية إلى القيم التي تشجع على الطلاق، أو فسخ الروابط الأسرية، والعُرى الاجتماعية، وكل هذا يُقدَّم في ثيابٍ قشيبة باسم النمو والتطور، والاستقلالية والحرية، والعثور على ذاتٍ متجددة.
ولتبيان خطورة هذه المفاهيم؛ دعونا نقرأ لأشهر منظريها ويدعى (كارل روجرز) الذي يعطي قيمة ضئيلة للزواج؛ حين أوجد تعبيراً شائعاً مفاده أن الزواج (التزام غير ملزم)، بل ويشجع على الطلاق، أو الخلع على أسس نظرية غلب عليها المصلحة “الذاتية” الفردية المتطرفة.
كما أن المفهوم الكامل للزواج الذي يقوم على قدسيته قد قُفِزَ عليه بفكرةٍ مفادها، أن الشخص بمجرد أن يقرر -بشكلٍ صحيح أو غير صحيح- أن تحقيق ذاته يتأثر بهذه العلاقة (الزواج)؛ فإن الوقت قد حان للمغادرة دون اعتبار لأي أمور أخرى تنتج بعد هذا القرار.
ولعلَّ من نتائج العمل بهذه الذاتية المقيتة؛ أن طفرة الطلاق التي بدأت في أمريكا في الستينيات، وبلغتْ ذروتها في أوائل الثمانينيات تُدين بالكثير لهذا النوع من التفكير الذي يستقي أدبياته من التمحور حول الذات؛ حين غدت هذه الأدبيات قُرْباناً يقدمونه لآلهتهم وأوثانهم المزعومة:
الحرية، والتمدُّن، والعثور على ذواتهم.
والمتأمل لحالهم؛ يلاحظ كيف لهذه العبادة أنْ تتسلل -عبر شقوق العوز إلى التقدير،وتضخيم الأنا- إلى سلوكياتهم لتصبح صلواتٍ للانعتاق من سجنهم كما يتوهمون.
إن الحكمة تقتضي أن يعيش الإنسان متوازناً بين جميع أدواره الحياتية، فلا يطغى دورٌ على حساب آخر في اعتدالٍ بديع، وتناغم مُحكم.
سليمان مُسْلِم البلادي
solimanalbiladi@
الحلقات السابقة من روشتة وعي