برز في السنوات الأخيرة مفهوم الاقتصاد الإبداعي، الذي تم تصنيفه رابع قطاعات الاقتصاد المستندة الى رأس المال الفكري، وهو مجموعة من الأنشطة التي تستغل الإبداع الجمالي والفني والرقمي ليصبح أحد محركات النمو الاقتصادي.
يتميز هذا النوع من الاقتصاد بالنمو السريع والقدرة على مواجهة التقلبات الاقتصادية، ويؤكد ذلك مساهمته بما يعادل 3% من الناتج الإجمالي العالمي، ولتتفوق حركة السلع الثقافية والخدمات الإبداعية على غيرها من الصناعات الأخرى.
إنه بإيجاز معادلة تنموية يتم من خلالها تبني كافة الأفكار الإبداعية وتحويلها إلى أفكار تجارية من أجل تعزيز النمو الاقتصادي وزيادة فرص العمل ورفع مستوى الصادرات.
ومنذ بروز هذا النوع من الاقتصاد الملهم على يد الباحث البريطاني “جون هوكنز” عام 2001م وهو يعمل على جمع مكوّنات الإبداع والملكية الفكرية والإدارة ورأس المال والثروة ضمن إطار شامل يضم عدداً من المجالات مثل: الفنون والتعليم والتكنولوجيا، وليشكِّل محور الإبداع منظومة في التسويق وطريقة العرض ورسالة ورؤية الشركات.
قيمة احتضان الأفكار الإبداعية وتحويلها الى مرتكزات تنموية تصب في الدخل القومي للدول دفع شركة إيرنست آند يونغ للأبحاث الى إصدار تقرير هام تتنبأ فيه أن يصل سوق الصناعات الإبداعية العالمية خلال السنوات المقبلة الى تريليوني دولار منها 58 مليار دولار في منطقة الشرق الأوسط.
لقد شمل هذا النوع من الاقتصادات الفاعلة العديد من نقاط الارتكاز في المجال التنموي، من خلال الاستثمار الثقافي في النشر وصناعة السينما والحفلات الموسيقية، وكذلك الاستثمار في التكنولوجيا الذي يشمل الذكاء الاصطناعي، الهواتف الذكية، أجهزة الحاسوب والبرامج، والأمن السيبراني، ثم الاستثمار الصناعي الإبداعي الذي تميزت فيه بعض الدول لدوره الفاعل في صناعة تاريخ المكان والحفاظ على هوية المجتمعات.
وكذلك الاستثمار في الطاقة المتجددة، والخدمات الإبداعية، ونقصد به الاستثمار في المواهب من خلال استخدام التنمية الفكرية لعدد من الخدمات مثل الاستثمار في القطاع الإعلامي ووسائل الإعلام الجديد كالبرمجيات وألعاب الفيديو والمحتوى الإبداعي الرقمي والتسويق والإعلان والتصميم والتجارة الإلكترونية والخدمات الإبداعية الذكية كالخدمات المعمارية والثقافية والترفيهية والأبحاث الإبداعية.
من هنا ندرك دوافع اهتمام رؤية المملكة 2030 بهذا النوع من الاقتصاد الفريد، لذا جاء استهدافها لتفعيل مساهمة الاقتصاد الإبداعي في الناتج المحلي لقطاع الثقافة بمعدل 5 أضعاف من خلال العديد من البرامج والمبادرات والمشروعات الفنية التي تحتفي بالثقافة وتدعمها، في إطار مشروع وطني للنهوض بهذا القطاع بمختلف قوالبه الإبداعية.
ولعلنا نتوقف قليلاً مع أبرز المشروعات الابتكارية الإبداعية بالمملكة كمشروع مدينة القديَّة، أكبر مدينة ترفيهية ثقافية بالعالم، وهي العاصمة المستقبلية للترفيه والرياضة والفنون.
وهناك المتحف الأثري بالعلا، وأكبر مدينة طينية في الدرعية، وأكبر مطار بالعالم في نيوم، وأضخم مشروع للطاقة الشمسية في سدير.
ولا يقتصر احتضان الاقتصاد الإبداعي على وزارة الثقافة التي أطلقت 27 مبادرة في استراتيجيتها، منها: تأسيس صندوق (نمو) الثقافي، وإقامة مهرجان البحر الأحمر السينمائي، وتأسيس الأرشيف الوطني للأفلام، ودعم المؤسسات الثقافية، وتشجيع الإنتاج الثقافي في 147 فئة منها العمارة والتصميم والأدب..
نقول لا يقتصر ذلك على وزارة الثقافة بل يمتد إلى العديد من الوزارات كوزارة السياحة التي جعلت المشروعات الثقافية والترفيهية أحد الأركان الرئيسة في دعم القطاع السياحي وإثراء الوجهات السياحية العشر بالمملكة، بكل ما تمتلكه من ميزات تنافسية ضخمة وموروث بيئي وثقافي، يساهم في استقطاب السياح وإثراء تجاربهم بما يعزز الاستثمار السياحي فيها، ونمو القطاع وفق الاستراتيجية الوطنية للسياحة.
ونستشعر تجليات الاقتصاد الإبداعي في مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي «إثراء»، التابع لأرامكو والذي يعتبر صرحاً ثقافياً يساهم في استقطاب الشباب وتمكينهم واحتضان أفكارهم الإبداعية حتى ترى الواقع، وهو يمثل حاضنة للمبدعين ورواد الأعمال عبر الندوات والورش واللقاءات التي تستلهم رؤية المملكة 2030 في احتضان المبدعين وتنفيذ مبادرات الاقتصاد الإبداعي.
كما تلامس مؤسسة الملك عبد العزيز ورجاله للموهبة والإبداع (موهبة) تلك المفاهيم الملهمة من خلال اكتشاف الموهوبين والمبدعين ودعمهم في المجالات العلمية ذات الأولوية التنموية.
ويبقى الحديث عن اقتصاد (الإبداع) حديثاً ذا شجون، ولكننا سنتوقف في الجزء الثاني من هذا المقال مع التحولات التنموية التي لامست القطاع غير الربحي، وكيف استثمر هذا القطاع (اقتصاد المعرفة) في تحقيق قفزات ملحوظة في مساره التنموي، مقدمين تجربة جمعية البر بجدة نموذجاً تطبيقياً لإبراز هذا التحول الفريد.. (للحديث بقية).
المستشار الإعلامي لجمعية البر بجدة