حقيقة ومثال

عند سفرك من مدينة إلى أخرى بالسيارة أو الحافلة أو غيرهما ستتجاوز في طريقك سيارات وحافلات وشاحنات تسير بسرعة أبطأ بكثير من السرعة التي تسير بها المركبة التي تكون فيها، لدرجة تجعلك ترجح أنها ستصل إلى أقرب وجهة لها بعد وصولك لنفس الوجهة بفترة طويلة، فإذا ما توقفت المركبة التي أنت فيها بضع دقائق لأي أمر كالتزود بالوقود أو للصلاة، أو لشراء بعض الاحتياجات من إحدى المتاجر التي في الطريق ثم تابعت المسير إلى وجهتك فإنك ستفاجأ بعد مدة من الزمن بتلك السيارات التي تجاوزتها قبلُ قد تجاوزتك بكثير وأنك لم تصل إليها إلا بعد وقت من متابعتك السير!

هذا المشهد الذي يتكرر في صور مختلفة يوضح بجلاء معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل: ﺃﻱ اﻷﻋﻤﺎﻝ ﺃﺣﺐ ﺇﻟﻰ اﻟﻠﻪ؟ ﻗﺎﻝ: “ﺃﺩﻭﻣﻬﺎ ﻭﺇﻥ ﻗﻞ”، ﻭﻗﺎﻝ: “اﻛﻠﻔﻮا ﻣﻦ اﻷﻋﻤﺎﻝ ﻣﺎ ﺗﻄﻴﻘﻮﻥ”. أي ﺃﻟﺰﻣﻮا ﺃﻧﻔﺴﻜﻢ ﻭﻛﻠﻔﻮﻫﺎ ﻣﺎ ﺗﺴﺘﻄﻴﻌﻮﻥ ﻓﻌﻠﻪ ﺩاﺋﻤﺎ ﻭﻻ ﺗﻨﻘﻄﻌﻮﻥ ﻋﻨﻪ.

كما أنه يبين سبب كون أفضل العمل أدومه وإن قل؛ لأن المداومة هي التي توصل إلى المقصود، وتأمُلُ هذا المشهد وما شابهه يجسد هذا المعنى في النفوس تجسيدا يؤكد أهمية هذا المبدأ وأثر التزامه وعدم ذلك في النجاح أو الإخفاق في تحقيق الأهداف مهما كانت مما يطلبه الإنسان في شؤون معاشه أو يسعى إلى تحقيقه أمور معاده .

والتاريخ والواقع حافل بما لا يحصى من الأمثلة على ذلك.

وربما لو أطلقت لنفسك العنان لتجمع أمثلة على ذلك مما شاهدت وما سمعت لأعجزتك كثرتها عن أن تسردها، ومما عاينته من تلك الأمثلة قبل عقدين من الزمن مما يناسب ذكره في هذا المقام أنه في سنة من السنوات اختبر عدد من الطلاب المتميزين في حفظ القرآن الكريم، وظهر عليهم الشعور بطعم الإنجاز وثمرة الاجتهاد وكان عدد منهم قد حفظ نصف القرآن فأردت اغتنام فرصة نشاطهم وفرحهم بإنجازهم وسهولة الاختبار عليهم فقلت لهم: من يستطيع منكم أن ينتهي من حفظ القرآن كاملا قبل أن يأتي مثل هذا اليوم من العام القادم، فرفعوا أيديهم جميعا بإصرار إلا واحدا منهم بدا عليه التردد.

فقلت لكل واحد منهم: كم صفحة ستحفظ يوميا حتى تنجز المطلوب وتحقق الهدف المنشود؟

فقال أحدهم: أربع صفحات،. وقال آخر: صفحتين أو ثلاث. وقال أغلبهم: صفحتين. وقال الذي تردد في قدرته على إكمال الحفظ قبل نهاية العام: صفحة، وإن استطعت فصفحة ونصف أو صفحتين.

وانقضى المجلس وشرع كل واحد منهم في الحفظ، وكانت النتيجة أنه لم يحقق ذلك التحدي ويتم الحفظ في المدة المذكورة إلا ذلك الطالب الذي كان مترددا وأقر أنه قد لا يستطيع أن يحفظ أكثر من صفحة في اليوم لكنه انتظم في حفظها وداوم عليه وزاد عليها كلما قدر على ذلك حتى بلغ القدر الذي كان يحفظه يوميا قبل الختم خمس صفحات.

أما صاحب الأربع صفحات فاستمر في حفظ ما حدده أيام معدودة ثم اضطرب في الحفظ ولم ينضبط فيه فتارة يحفظ أربع صفحات وتارة لا يحفظ شيئا، وهكذا شأن البقية؛ منهم من حفظ ما حدده لفترة وجيزة ثم انتقل إلى حفظ مقدار أقل وانتظم فيه وختم بعد المدة المذكورة، ومنهم من حفظ ما حدده فترة وجيزة ثم لم ينتظم في شيء بعد ذلك ولم يختم.

وهذا الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم من أفضلية العمل الدائم هو الذي كان عليه عمله صلى الله عليه وسلم فقد كان عمله ﺩﻳﻤﺔ، كما أخبرت بذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
وكان ﻋﻤﺮﻭ ﺑﻦ ﻣﺴﻌﺪﺓ ﻛﺎﺗﺐ اﻟﻤﺄﻣﻮﻥ ﻳﻘﻮﻝ: ﻗﻠﻴﻞ ﺩاﺋﻢ ﺧﻴﺮ ﻣﻦ ﻛﺜﻴﺮ ﻣﻨﻘﻄﻊ.
والواقع المشاهد خير برهان.
ومن استعان بالله تعالى وتوكل عليه أعانه وسدده، فاللهم إياك نعبد وإياك نستعين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 محمد بن أحمد الأنصاري

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *