للبيئة العلمية أهمية كبرى ويجب الاعتناء بها وفي ذلك يقول العلامة ابن مفلح رحمه الله في كتابه النفيس “الآداب الشرعية”(٢٥٥/٢) :
(فَصْلٌ فِي الْإِقَامَةِ فِي بِلَادِ الْعِلْمِ وَالرِّحْلَةِ عَنْ غَيْرِهَا ، قَالَ الْفَرَبْرِيُّ: سَمِعْت الْبُخَارِيَّ يَقُولُ: دَخَلْت بَغْدَادَ آخِرَ ثَمَانِ مَرَّاتٍ فِي كُلِّ ذَلِكَ أُجَالِسُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فَقَالَ لِي فِي آخِرِ مَا وَرَدَ عَنْهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ تَتْرُكُ الْعِلْمَ وَالنَّاسَ وَتَصِيرُ إلَى خُرَاسَانَ؟ قَالَ الْبُخَارِيُّ فَأَنَا الْآنَ أَذْكُرُ قَوْلَهُ.
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ خَرَزٍ إذْ دَخَلَ عَلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَخَلَفُ بْنُ سَالِمٍ حَلَبَ، فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لِخَلَفٍ ارْحَلْ بِنَا عَنْ هَذَا الْبَلَدِ، فَإِنَّ هَذَا بَلَدٌ يَضِيعُ فِيهِ الْعِلْم).
♦️التعليق :
في هذه الأقوال والمواقف لإمام العلم والسنة مايدل على أهمية البيئة العلمية النافعة والصالحة للعالم والمتعلم .
عندما نرى التراجع العلمي والتحصيلي لدى أبنائنا الطلاب ، ننشغل بنقد المعلم والمناهج والمؤسسات التعليمية ، وننسى أن الأساس في العملية التعليمة والرقي بها هو المجتمع نفسه .
فالمعلمون هنا أئمة الدنيا في عصرهم ، الإمام أحمد وتلميذه البخاري رحمهم الله . والمناهج نقية ، والآلة قوية ، والأذهان صافية .
لكن الناس يُعرضون أحيانا في مكان ما ، وينشغلون عن العلم بالفضول ، وبالفتن في مكان آخر . فيضيع العلم ولا تنفع الجهود شيئا والحالة هذه .
وحتى تعود للعلم مكانته وهيبته لابد لنا من أمور ومعالجات منها :
أولا : تعظيمه في أنفسنا واحترام أهله ، وتربية أبنائنا على هذا التعظيم وغرس أهمية العلم في نفوسهم .
ومن ذلك تلقينهم أن طلبه عبادة يلزم الإخلاص فيها ، وتصحيح النية ، والتخلق بأخلاق طلاب العلم ، والتأدب مع المعلم والزملاء .
ثانيا : منزلة العلم ثابتة له في نفسه ، فلا معنى للتحفيز إليه دائما بالأثر المادي أو الاجتماعي الذي يحصل عليه المتعلم ، وكأن العلم سلعة يقتات بها وليس ضرورة ملحة .
ثالثا : التحذير من الجهل وأهله وغرس ذلك أيضا في قلوب الناشئة وعدم التهوين من الجهالات والسفاهات ، فعلى الجاهل الإصغاء للمتعلم والاستفادة منه ولو كان أصغر منه .
رابعا : تعليم الكبار والعودة للدراسات المسائية وحلق العلم والبرامج المخصصة للكبار بصدق وحماس بهدف رفع الجهل ، لا لأهداف مادية بحتة من ترقيات وشهادات . فالكبار هم قدوة الصغار وفاقد الشيء لا يعطيه .
خامسا : تربية الصغار على تقديم وتفضيل المتعلم والنابغ منهم على غيره ، والإشادة به . والاستفادة من خبرات وطريقة الأسر التي نجحت في تعليم الأبناء وتهذيبهم مبكرا قبل التحاقهم بالمقاعد الدراسية .
فالعلم والأدب قوام الحياة ، وغذاء الروح ، فقد يستدرك الصغير لاحقا بعض المعلومات التي سبقه بها قرينه ، لكنه لن يستدرك من صفاء النفس وقوة الذهن وتهذيب العلم والأدب للروح والخُلُق ماسبقه إليه من قبله .
سادسا : التوقف عن الطرح الذي نردده بغباء عن سهولة الوصول للمعلومة اليوم ، وأن العلم متاح لكل أحد والناس فيه سواء .
وكأن حامل العلم في صدره والمتفقه فيه هو مجرد أرشيف متنقل يمكن الاستغناء عنه . ويمكن لغيره أن يساويه بمجرد الوصول لنتيجة أو معلومة معينة ربما لم يفهم كيف استُنتجت وماهو موضع
الحجة لها .!!
أين هي قيمة العلم في نفسه ؟!
واين هي القيم والأخلاق التي يتميز بها المتعلم عن الجاهل ..؟!
بل أين قوله تَعَالَى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ﴾ [الزمر: ٩].
يقول العلامة السعدي رحمه الله : ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ﴾ ربهم ويعلمون دينه الشرعي ودينه الجزائي، وما له في ذلك من الأسرار والحكم ﴿وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ شيئا من ذلك؟
لا يستوي هؤلاء ولا هؤلاء، كما لا يستوي الليل والنهار، والضياء والظلام، والماء والنار. ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ﴾ إذا ذكروا ﴿أُولُو الألْبَابِ﴾ أي: أهل العقول الزكية الذكية، فهم الذين يؤثرون الأعلى على الأدنى، فيؤثرون العلم على الجهل، وطاعة الله على مخالفته، لأن لهم عقولا ترشدهم للنظر في العواقب، بخلاف من لا لب له ولا عقل، فإنه يتخذ إلهه هواه. ) انتهى من تفسير السعدي .
ولنتأمل في الختام حديث النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في منزلة العلم وكيف قسم الناس فيه بالنسبة لحالهم مع العلم الذي بُعث به وهو اشرف العلوم وأجلها .
عن ابي موسى رضي الله عنه قال : قَالَ رَسُول الله ﷺ: «إنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِي الله بِهِ مِنَ الهُدَى والعِلْم كَمَثَلِ غَيثٍ أَصَابَ أرْضًا فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفةٌ طَيِّبَةٌ، قَبِلَتِ المَاءَ فَأَنْبَتَتِ الكَلأَ والعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أمسَكَتِ المَاء فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ فَشَربُوا مِنْهَا وَسَقُوا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ طَائفةً مِنْهَا أخْرَى إنَّمَا هِيَ قيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ في دِينِ اللهِ وَنَفَعَهُ بمَا بَعَثَنِي الله بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
( قال القرطبي رحمه الله : هذا مثل ضربه النبي ﷺ لما جاء به من الدين، وشبّه السامعين له بالأرض المختلفة.
فمنهم: العالم العامل المعلم، فهو بمنزلة الأرض الطيبة شربت فانتفعت في نفسها، وأنبتت فنفعت غيرها.
ومنهم: الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه، غير أنه لم يعمل بنوافله أو لم يتفقَّه فيما جمع، لكنه أدَّاه لغيره فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس به، وهو المشار إليه بقوله: «نضَّر الله امرءًا سمع مقالتي، فأدَّاها كما سمعها» .
ومنهم: من يسمع العلم فلا يحفظه، ولا يعمل به، ولا ينقله لغيره، فهو بمنزلة الأرض السبخة، أو الملساء التي لا تقبل الماء، أو تفسده. انتهى مُلخَّصًا.
والحاصل أنَّ الناس في الدِّين ثلاثة أقسام:
قوم عَلِموا وعَمِلوا، وهم عامة المؤمنين.
وقوم علموا وعملوا وعلَّموا، وهم العلماء.
وقوم لم يعملوا، وهم الكفار والفاسقون. ). انتهى من تطريز رياض الصالحين (١٣١/١).
فالأستاذ والمدرسة والمؤسسات التعليمية هي جزء من المجتمع لا يمكنها القيام ببناء أهمية العلم بمفردها . بينما بإمكان المجتمع أن يفرض عليها هذه الأهمية ويستغلها لتحقيق رسالة العلم والأدب التي بها تعلو الأمم وتتقدم .
اللهم علمنا ماينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما يا حي ياقيوم .
عثمان بن علي الأنصاري
مقالات سابقة للكاتب