الأقربون أولى بالألم!

يتقاسم الألم مع اللذة معنا رغيف الحياة، وعيْش تفاصيلنا، بل نجدُّ أنَّ الألم أكثر حضوراً والتهاماً، فهو يستأثر بالنصيب الأوفر من رغيف الحياة.
يقول الأديب الانكليزي كلايف لويس:
“بإمكاننا تجاهُل الّلذّةَ، لكن الألم يُصرّ على الحضور. الروح تصرخ في أعماقنا حين نتألّم”
فالآباء والأمهات يبذلون جهداً عظيماً في سبيل رؤية أولادهم في أفضل حال.
وقد يصل بهم الحال في وسط ركْضهم للوصول إلى غايتهم تلك، أنهم ربما يُفرّطُون في بعض الأمور التربوية؛ طمعاً في جنْي ثمار الأولاد.
لكن ما يحدث خلاف التوقعات، فقد يتمادى ذلك الابن -جهلاً منه- في البِرِّ بوالديه بالصورة الصحيحة.
وهنا يشعر الأب والأم -على حدٍّ سواء- بأنَّ ثَمَّةَ جرح غائر فُتِحَ في أحشاء جسدهما؛ ذلك أنَّ الجرح جاء من مسافةٍ قريبة لا تكاد تُذْكر، وأن قلبهما به ثُقْب صغير نَفَذَ منه ذلك الجرح؛ ليصل إلى أعمق نقطة فيه.
ومعالجة ذلك، بالاعتدال، فلا إفراط أو تفريط، واستلهام قول الشاعر:
‏قسى ليزدجروا ومن يك حازماً
‏ فليقسُ أحياناً على من يرحمُ
ويمكن لنا قياس ما يحدث داخل تلك الأسرة على مستوى أوسع من مجتمعنا، وهو ما قد يحدث بين أبناء العمومة من خصومةٍ قد تصل إلى القطيعة.
ويمكن أن ذاكراتنا التي تحفظ قول طرفة:
وَظُلمُ ذَوي القُربى أَشَدُّ مَضاضَةً
‏عَلى المَرءِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ
هي التي حَفزَّتْ أذهاننا،وحَرَّضتْ عقولنا على سلْك هذا الطريق،وكأن الأمر حاصل لا محالة،ومفروغ من حدوثه،وأن الأقربون أولى بالألم.
أم أنَّ ثقافتنا نُسجتْ،وحِيّكَتْ،وتَغَذَّتْ على بيت سمير الجربا:
نامتْ عيون الناس إلا عيوني
‏ هلّتْ دموع وتالي الدمع به دم
من لابتن ما كنهم يعرفوني
‏ عدّني من الأجناب ماني ولد عم
أم أنَّ الألم العظيم لا يقع إلَّا من ذوي القربى، كقول محمد المقرن:
‏ويهونُ جرحُ العابرينَ إذا مضوا
‏ لكنَّ جرحَ الأقربينَ أليمُ
أم يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً، ولم يُدْركوا أنهم يُعَمّقُون جرحاً.
إنَّ البغضاء والكراهية تقتاتُ من أفكارنا وعقولنا، وتنهش في أجسادنا وقلوبنا، وتُسْلمنا للحياة وما خُلقنا من أجله أكثر هشاشةً، وتجعل جوارحنا تُصابُ بالوهن والضعف، فلا نجد ما نقُصُّه على أجيالنا من عظيم أعمالنا، وسمو غاياتنا، سوى أننا سنقُصُّ على أولادنا وأحفادنا كيف كُنَّا مع أقاربنا الذين تقطَّعتْ بيننا وبينهم السُّبُل، وقد تضرَّجَ جميعنا بدماء ذنب القطيعة، بعدما زَهِدنا في أمارات الصُّلح التي كانت تلوح في الأفق؛ طمعاً في انتصارٍ زائف زَيّنَته أناتنا الخادعة، واستجابةً لكبرياءٍ أجوف، ومجْدٍّ بليد.
وبالرغم من ذلك كله، يمكننا ترجيح صوت الحكمة والعقل، واستلهام مقاصد الشريعة عبر عَقْد النية، وطلب الأجر والمثوبة من الله، وإعادة قراءة قوله صلى الله عليه وسلم لكفار قريش في يوم الفتح: “اذهبوا، فأنتم الطلقاء” الذي رسم للإنسانية منهاجاً في العفو والصفح، وإقصاء للأنا وانتصار النفس، كذلك لنا في حديث “من خالط الناس وصبر على أذاهم” نبراساً يُهتدى به، ومنارةً نسترشد بها.
إضافةً إلى ‏إدراك أن من مروءة الإنسان وتمام نُبْله ألَّا يُخْرج حماقة حقده، أو أن يُعَكّرَ ينابيع فرحة أيامه بخصومةٍ ما مرت به، وأن يعي جيداً أن الأمانة التي حملها الإنسان هي أن يعود لطينة الأرض كما أتى مُتجرِّداً من آثام الكراهية والبغض.

سليمان مُسْلِم البلادي
solimanalbiladi@

الحلقات السابقة من روشتة وعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *