للبيوت أسوار محاطة بالخصوصيات والأسرار الأسرية ، فالناس لا يعلمون ما يجري في البيت المستور ، ولا عن حياة زيد من الناس ، ولا كيف يعيش مع أسرته ، ولا يعلمون عن الطفل الفلاني وعفويته ، ولا الفتاة التي أُقحمت ، وكُشفت سيرتها ، ومهارتها ، على الملأ ، كل ذلك ، كان في حيز الكتمان ، وهذا هو الواجب الشرعي
الذي يسير عليه المسلم حفاظاً على أسرار بيته وأسرته ،حتى ظهر لنا ما يسمى بـ ( السوشيال ميديا )، فأمام شاشة الجوال ، كشف بعض الناس خصوصيته ، ونشر أسرار بيته ، فهو يَعرض كلّ ماهو متاح له ، من أفراح أو أحزان ، من سفريات أو مشاهدات في منتزهات ، من مأكل ومشرب ، حتى الأطفال أقحموا في نشر خصوصياتهم ؛ من فرح أو حزن ، أو مرض ،أو مهارة تميّز بها ، كل ذلك يصور ويُعرض على الناس ، والطفل بعفويته يتحدث ، يصيب ويخطئ ، ويتصرف أحياناً تصرف يضحك الناس عليه ، أو يكون في وضعية سخرية واستهزاء ، وهو مع براءته ، يحسب أن هذا سلوك حسن ، والأب أو الأم يستمتعون ، بهذه المشاهدات ، وبغيتهم الوصول إلى هاشتاق يبلغ الترند ، من أجل الشهرة ، وجمع المال ..
واعجباه ، يبيع الإنسان خصوصيته ، ويكشف أسرار أسرته وأهله ، من أجل أن يضحك الناس ، ويقول الناس ، مشهور ، ويكسب من وراء ذلك مالا ..
واعجباه ، أي شهرة هذه ، مشهور أن يقال فلان ، مضحك ، فلان مبالغ ، حياة فلان وأهله مكشوفة ، ولده أو ابنته ، تعمل كذا أو مسكينة ، أو يقال فلان انفصل عن زوجته ، أو هي تركته من أجل كذا وكذا، أو فلان ترك زوجته ، لانها عملت كذا وكذا ..
ولوكٌ بالألسن ، في أعراضهم ، وأسرارهم وخصوصياتهم ..
ترى من الذي أوصلهم هذا التاريخ المشين الذي ، تم توثيقه ، وتسطيره حيث التاريخ لا يرحم ..
فقد سُجلت تلك الأحداث في صفحات تاريخك وتاريخ أسرتك وأولادك ، تخيل هذا الابن أو البنت البريئة العفوية التي على فطرتها لا تميز بين الصواب والخطأ ، وتتخذها مطية ، وتنشر سيرتها وحياتها الاجتماعية ، ومهاراتها التي حباها الله بها على الناس ، الذين ربما يحسدنوها ويصيبونها بالعين ، فتخسر حياتها كلّها أو تسجل عليها مواقف غير لائقة وغير مقبوله اجتماعياً من قول أو فعل ، وإذا كَبُرت وأدركت ، و أعادت تلك المشاهد ، استحيت وندمت ، وقالت ( ليتني كنت أُدرك فلا أفعل ) فيعيبها الصغير والكبير ، وتصاب بحالة نفسية من القلق والهم مما فعلت في صغرها ، وربما تتوارى عن الخلق من سوء مافعلت وهي لا تدرك ولا تستبعد أن تقول ( حسبي الله ونعم الوكيل من كان سبباً في ذلك ) فتصيبك دعوة مظلوم ، كنتَ غافلا عنها..
والمشكلة أن هذا الداء انتشر بين الكبير والصغير في الأسرة ، عن طريق النشر عبر السنابات ، تحتفل الأسرة بأحد أفرادها ، تنشر الصور ، تذهب إلى مطعم توضع أطباق الطعام مباشرة تصوير ونشر في السناب ، بل البعض يعلم طفله بعض المهارات ، أو بعض المبالغات وأكثرها بعيدة عن الحقيقة والواقع ، من أجل تصويره ونشره بالسناب ، بغية زيادة المشاهدات ، بل وصل بالبعض أن يختلق أي قصة أو حدث مثير وإن لم يكن واقعاً من أجل إثارة الناس والمشاهدات ..
رحماك ربي ، أين تحكيم العقل ، وتصور عاقبة الأمور ، وإذا تحدّثت معهم ، لا يليق هذا ؛ قالوا أبداً نحن لا ننشر إلا على أقاربنا وزميلاتنا والقروبات الخاصة ..
أيها الغافلون : أفيقوا من سبات نومكم
أذهب الى مطعم ، واطلب ما أشتهي ثم أخبر به الناس ، عجباً ، أين مراعاة المشاعر فيمن لم يتمكن أن يحصل على ماحصلت عليه ، أين مراعاة سيلان لعاب الفقير عندما يرى تلك المائدة عبر الصورة ، بعيدة المنال ، أين تحسب نظرة العين الحاسدة التي لا تتمنى لك الخير ، أين … أين ،،،،كل ذلك يغيب عن الذهن حال سكرة الظهور والتفاخر ، بأنّ وضعنا هكذا ، وإن قيل لهم ؛ قالوا : نحن لا نتفاخر ولا نتباها ، إذا بماذا تفسر ؟
فالافعال شاهدة وقرينة على ذلك ، وإلا ما الغرض أن تفشي أسرار حياتك ليلاً ونهاراً ، أين ذهبت ، ماذا أكلت ، ما اشتريت ، أين سافرت وماذا شاهدت ، الفرض واحد ، أنك تريد الشهرة وكثرة المتابعين
وإظهار أنا هنا ،،،،،
ومن هنا نحتاج إلى إعادة ترتيب الأولويات في حياة الأسرة ، ولتعلم أنّ دينها ، الذي حث على حفظ أسرار البيوت ، وقيمها وعاداتها التي عاش عليها الآباء والأجداد ، والذين كنّا لا نعلم عن مجرى حياتهم الأسرية إلا ماظهر منها لقليل من المقربين، وتماسك هذه الأسرة وعدم إفشاء حياتها وأفعالها ، وما رزقها الله به من النعم والستر والأمن والأمان ، هو أولى من هذا التخبط في البحث عن الشهرة أو طلب المال بهذه الطريقة ..
ولنعلم أبناءنا وبناتنا ، كيف نشكر الله بحفظ أسرار بيوتنا ، وعلينا إعادة التفكير في خصوصيات وأسرار بيوتنا ، ولنحافظ على المكتسبات العائلية والتربوية ، ولنحمد الله على نعمة الذرية ، ونرعى الله فيها ، بالتوجيه السليم ، والتحصين المنيع ، والاستفادة من التقنية في العلم والبناء ، لا في كشف الأسرار ، وهتك الأستار ، ولنحرص على المحافظة على متانة حصون بيوتنا لتمنع من اختراق خصوصيتها .
د.صلاح محمد الشيخ
مستشار أسري وتربوي