‏العزاء الذي غاب عنه الجميع!

رَحَلَ عن دنيانا غلام شبير الذي عُرِف بأنه أطول رجل في العالم بعد معاناة طويلة مع المرض.
رَحَلَ في هدوءٍ دون صخبٍ، ودون أن تصحب وفاته متابعاتٍ، أو تغطياتٍ توازي حضوره رحمه الله في كل مكانٍ كان يتواجد فيه، بل الأشد مرارةً الغياب الفاضح عن سرادق العزاء لأولئك الذين اتّخذوه محتوىً لهم تارة، وسخرية تارة أخرى،أو تذكاراً لهم يُزيّنون به ألبوم ذكرياتهم.
فلم نجد مِنْ هؤلاء أحداً؛ فقد غاب الجميع عن العزاء.
هذا الغياب الفاضح عن سرادق العزاء من شأنه أنْ يمنح الإنسان البصير دلالات عميقة على شدة العَوز الذي يعاني منه البعض، حين اتَّخذ شهرة هذا الرجل في طول قامته مادةً للتندُّر والاستهزاء، بينما اتَّخذها البعض نافذةً للشهرة والأضواء؛ ليسُدَ بها نَهم نفسه، وتلهُّف ذاته، وليردم بها فجواتٍ سكنتْ طبيعته المغلوبة على أمرها.
إنَّ هذا الغياب مع فرط ألمه الإنساني، إِلَّا أنه يهبنا درساً عظيماً، ويُلقي على أسماعنا موعظةً بليغة.
وإن مِنْ معاني هذه الموعظة البليغة، درساً لكل إنسان قُدِرَ له أن يكون مشهوراً في مجاله، وهو أَلَّا يغترَّ بشهرته، وأن يعي جيداً أن من يتسابقون لالتقاط صورة معه؛ إنما هم يحاولون أن يرفعوا من ذواتهم حين شعروا أنها في حالة انخفاض، فالتقاط الصور معه ليست لذات ذلك المشهور، بل للهالة والشهرة التي لديه، فهم يحاولون تغذية أرواحهم المتعبة، وأخْذ بعضاً من أمصال شهرته؛ ليشغلوا بها حيزاً في فضائهم الذي يخلقونه لأنفسهم، وليضيفوا لأنفسهم قيمةً زائفة، ومكانةً ستظل حبيسة إطار تلك الصورة.
كذلك من المعاني لهذا الغياب، أنَّ من دلالات صدق المحبة، وكريم الاهتمام أن من يحبنا يُحبنا لذاتنا فقط، وليس لأي أمر آخر منحه الله لنا كمنصبٍ، أو جاه، أو منزلةٍ رفيعة، أو شهرة.
ذلك أن من اهتمَّ بك لأي واحدٍ منها؛ فإنَّ هذا الاهتمام عرضة للزوال في حال زوال المنصب، أو الشهرة مثلاً.
فهو بهذا الاهتمام البائس، والحفاوة البالية يريد أن يرمم تلك الشقوق في نفسه التي ينفذ منها هواء آراء الناس فيه، وضعف ثقته بنفسه، وعندما أوشك جدار روحه أنْ ينقضَّ؛ أقامه بهذه المحاولة الواهية.
ولعلَّ الوعي الإنساني يفسر لنا سبب حدوث مثل هذه المشاهد الاجتماعية؛ إنه غالباً ‏ما نعتقد أننا نفتقر إليه؛ يُحدد ماسنصبح عليه بالحياة؛ فنجد هذا التَّسابُّق المحموم للفرار من ذلك الافتقار للهوية الذاتية.
ويمكن أن تكون أولى خطوات معالجة ذلك عبر إدراك أهمية الامتلاء النفسي، والإشباع الروحي دون إفراط أو تفريط، والوعي بخطورة حالة الاستلاب الذهني للهوية الذاتية حين نستمد قيمتنا من التقاط صورة عابرة مع مشهورٍ ما.

سليمان مُسْلِم البلادي
solimanalbiladi@

الحلقات السابقة من روشتة وعي

2 تعليق على “‏العزاء الذي غاب عنه الجميع!

أحمد بن مهنا الصحفي

ماعندكم ينفذ وماعند الله باق..
إن العلاقات التي منشؤها في الله ثابتة باقية ..
وغيرها منته ! علاقات أشبه ببضائع التجار يحتفظون بها ليبيعوها لا ليدخروها !
رحم الله من ذكرت والمسلمين جميعا ،

سليمان مُسْلِم البلادي

شكرًا جزيلاً ا.أحمد لهذا التعقيب الثري.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *