بين الوزير “ابن جدعان” والشيخ “ابن سلمان”

أكثر من أربعين عاماً بالتمام والكمال تفصل بين هذه المقالة وأحداث القصة وأشخاصها التي سأرويها لكم من فصلنا الدراسي عام ١٣٩٩هـ، في معهد إمام الدعوة العلمي بالرياض ، حيث كنت أدرس في الصف الأول الثانوي ، وبين الزملاء طالب ذكي اسمه محمد بن عبدالله الجدعان عفواً “معالي الوزير”.. كان هذا الطالب رغم (نحول جسمه) يتعمد أن يجلس في آخر مقاعد الفصل، لم يكن كسلاً منه بل ليتوارى عن أنظار المدرسين مستفيداً من (السواتر الطلابية) لبعض الطلاب كبار الجسم، وينشغل عن الدرس بما يشاء لأكل الفصفص أو (لعبة ام تسع)، وكان بين المعلمين المتميزين الذين يدرسونا في المعهد، العالم الشهير عن التعريف وصاحب التآليف، الشاعر الفهامة والفقيه العلامة الشيخ/ عبدالعزيز بن عبدالله السلمان – رحمه الله – ..

ومع ما لدى الشيخ من مكانة علمية ووقار إلا أنه لا يخلو من بعض الطرائف والتعليقات والنوادر والفكاهات الأدبية المرحة أو اللاذعة أحياناً وقد تكون بأبيات من الشعر أو مثلاً عربياً بل وحتى شعبياً..

ومن الطرائف أن مادة التوحيد والعقيدة التى كان يُدرسنا إياها الشيخ/ السلمان تقع بين مادة الإنجليزي و (الفسحة) وكان شيخنا يدخل الفصل في بعض الأحايين متلثماً ويشير إلى الطلاب بأن يمحو آثار اللغة الإنجليزية ويسمها أعزكم الله بـ “الصون” لأنه كان من المعارضين لإدخال الإنجليزي في المعاهد العلمية.

وفي يوم من الأيام كتب الشيخ بيتاً من الشعر عقب مسح (السبورة) قائلاً: إذا جاء درس الصون فأذهب فإنما جلوسك عند الصون جرم ومأثم ونعود للطالب الذي كان يكنيه شيخنا بـ (البصوة) لصغر جسمه وكثرة حركاته، فهو كثير الاستئذان من الشيخ في الفصل ليلحق بالصفوف الأولى لــ (المقصف) تلافياً للزحام،وحينما كثر  استئذانه وتكرر ذلك خاطبه الشيخ يوماً فقال:(قضيت قروش أهلك بالفسحة وما شفنا من الأكل آثار عليك).

ولا أعلم أأثرت وصية الشيخ بالطالب أو (الوزير) إبن جدعان أم لا،ولكنه رغب في دخول قسم الاقتصاد في جامعة الإمام محمد بن سعود ولم يدخل كلية الشريعة التي أرادها له والده،ولاقسم الإعلام المُنشأ حديثاً الذي جذب جميع زملائه،وكأن لغة الأرقام استهوته منذ ذلك اليوم فأصبح هاجس التوفير والتدبير يأخذ منه كل مأخذ.

سلك الطالب في قسم الاقتصاد وبعد سنوات أتبعها بدبلوم في معهد الإدارة العامة،ثم عمل ما بين الأجهزة الحكومية والقطاع الخاص ما يقرب من الثلاثين عاماً ليصدر الأمر الملكي بعدها بتعينه وزيراً للمالية في نهاية شهر محرم ١٤٣٨هـ،وهي حقيبة مهمة في جميع البلدان وكان قبلها مكلفاً برئاسة سوق الأسهم.

كم كنت أتمنى أن يكون الشيخ السلمان–رحمه الله– حياً ليرى تلميذه(البصوه) وزيراً للمالية وأنه لم يعد يدبر ميزانية منزله ولا أسرته بل يدبر ميزانية الدولة،وأنه يحسن التدبير والتوفير على حد سواء،و أن اسم تلميذه لم يعد في كشوفات الطلاب فقط وفي أدراج المعلمين،بل في جيوبهم وجيوب جميع الطلاب والمعلمين والمواطنين والمقيمين،فاسمه وتوقيعه ممهور على جميع النقود الوطنية..

فهنيئاً لزميلنا السابق ثقة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله-،وبقدر سعادتي لتولى أحد الزملاء منصب الوزارة فإني سعيد بأن جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لم تعد جامعة تخرج المعلمين والقضاة فقط بل أصبح من تلاميذها الوزراء، وسنرى قريباً نتائجها في الطب والهندسة والحاسب الآلي كما رأيناهم في التخصصات الأخرى..

أسال الله أن يوفق ولاة أمورنا، ويحفظهم، ويديم على بلادنا نعمة الأمن والأمان، ورغد العيش، ويكفينا من شر الأشرار وكيد الفجار.

عبدالمجيد بن محمد العُمري

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *