غالباً مايكون المكان المحدد لاتجاه الرؤية الأدبية لدى أي كاتب ، في المكان تتشكل معالم شخصية الإنسان المبدع وتُرسم الخطوط الأولى لتجربته الأدبية، وقدانشغل الكثير من الأدباء بالسرد القصصي في أعمالهم بتوثيق الأحداث والمواقف وأهملوا المكان الذي قامت عليه لحد بعيد ،قلة منهم من أثرّ به المكان بشكل عابر كحالة العشق الأول الذي أوقد بأعماقه شرارة الإبداع ، وقلة منهم أيضاً من كتب عن المكان الذي ولد به وأسقط عليه كثيراً من الوقائع وتناوله بشكل مقدس يستلهم منه في أدبه وفنونه التي يقدمها ،والمكان ليس بالضرورة أن يكون حاضرة عريقة كدمشق ، أو معلماً مشهوراً كبرج إيفل .. ربما يكون نائياً منسياً على هامش الجغرافيا فيأتي من ينفض غبار الزمن عنه ويظهر عراقته وجمالياته بما يكتبه عنه فينقله إلى الواجهة ، وهذا بالضبط حال العجيلي مع مدينة الرقة التي كانت ستنسى وتبقى في دهاليز النسيان وأرشيف التاريخ لولا أنه تداراكها عندما قرر أن يستقر بها ويجعلها عاصمة مهمة من عواصم الأدب والثقافة العربية .
ومع هذا لم يكن عبدالسلام العجيلي مجرد كاتب استطاع أن يشغل حيزاً كبيراً من خارطة الأدب العربي الحديث في ميدان القصة والرواية ، ولم يكن مجرد طبيب ترك دمشق في ذروة مجده ليستقر بالرقة مديراً ظهره لكل المغريات السياسية والمادية ويسخر نفسه لخدمة أبناء الرقة ، لقد كان العجيلي أسمى من ذلك بكثير وماتناوله الكتاب والباحثون عن تجربته الأدبية على غزارته هو أقل بكثير من واقع تجربته الإنسانية التي كان يفتخر بها ، وكان دائما مايردد لزواره : ” يحز في نفسي أني عرفت كأديب أكثر ماعرفت كطبيب ،رغم أني قدمت في الطب أكثر ماقدمته في الأدب “.
وعلى الرغم من اشتهاره كأديب أكثر من كونه طبيباً أو سياسيّاً، إلّا أنّه لا يمكننا إغفال دور الطبيب الذي قدّم لأهل مدينته أروع معاني الإنسانيّة، فقد ساهم بشكل فعال بمُكافحة شلل الأطفال في الثمانينات من القرن الماضي ، وتعاوَنَ مع مُنظّمة الصحّة العالميّة للحصول على لقاحات مجانيّة، فتجاوبت الحكومة مع ذلك بشكلٍ سريع، وأطلقت حملة وطنيّة لمكافحة هذا المرض الذي انتشر بالرقة والجزيرة آنذاك انتشاراً مخيفاً.
فكانت عيادته قبلة لآلاف المرضى من أهل المدينة والمنطقة، ولا غرابة أن نجد كثير من نساء المنطقة بحضرها وبدوها ولدوا أطفالاً حملوا اسم (عبد السلام) الطبيب الإنسان الذي سخر جهده وإمكاناته لخدمة مرضاه . وفي هذا يقول العجيلي: «إنّ ما كتبته يكتبه غيري لكنّ دوري في مداواة الناس لا يَقْدِر عليه غيري».
والإنسانية عند العجيلي تتجاوز عمله كطبيب فهو على الصعيد الإنساني شخصية اجتماعية حاضرة بكل مناسبات الرقة فتجده بالفرح والعزاء ومع الرياضيين والفنانين والمزارعين والعمال داعماً ومشجعاً لهم .
يبتسم في وجه الأطفال ويحنو عليهم ويوقّر كبار السن ويقوم بخدمتهم بنفسه فالرجل الذي شرعت له أبواب السياسة والأدب ، لا تستغرب عندما تراه يستقبل السفير الفرنسي بمنزله متجاوزاً كل التقاليد الدبلوماسية ويستضيفه بصفة العربي البدوي الذي لم يأخذه عالمه وشهرته عن عاداته وتقاليده التي بقي مسكوناً بها بتواضع الكبار ، تراه يودع السفير بعد أن أذهله بثقافته الفرنسية وسعة إطلاعه على الآداب الأوربية .
ليكمل العجيلي مسيره بالحارة إلى الديوان فيجد عدداً من كبار السن من عوام المجتمع ليقوم بصب القهوة لهم ويقف على خدمتهم متبادلاً معهم القصص الشعبي والأحاديث الودية .
وبمناسبة الحديث عن الشعبي فالعجيلي ابن بيئته كان يطرب أيما طرب للشعر الشعبي الذي يسمعه من جلسائه ، وكتب في عدة ألوان شعبية لاسيما ” الموليه ” ،فالعجيلي الذي لايجلس لمشاهدة التلفاز لا تستغرب أن تجده جالساً بصمت يستمع للمطرب الشعبي ” جبار عكار ” وعن علاقته بهذا المطرب يقول ولده د حازم : ” كان والدي لايتابع التلفاز ولايجلس قبالته ولكن إذا سمع “جبار عكار ” يجلس وينصت بتأثر… وخصوصاً عندما يقول :
“ظليت مثل الجمل اصرج على نابي
من كثر حملي انا اتوچه على اجنابي
مجروح تحت الضلع خزًن ولا طابي
الخ……. ”
وكان يستحضر هذه الأبيات في مواقف عديدة وعندما ينسى شيئا منها يطلب من جلساءه تذكيره بها.
وكانت ربابة هذا المطرب الشعبي تفعل به الأفاعيل بمجرد أن يسمعها تنهمر دموعه ويشجيه تلاعبه عليها .
ويضيف د. حازم : لقد كتب والدي كثير من الأبيات الساخرة المحظورة من النشر لخصوصية مناسباتها، ولشدة حبه للأدب الشعبي كان يحتفظ بديوان “عبدالله الفاضل” في العتابا وقد حقق هذا الديوان وبخط يده وضع تعديلاً على كل بيت فيه!.
ولا يستغرب أبناء العجيلي ومحبيه أن يأتي أي أنسان من عامة الناس فيقول لهم : (أنا صديق الدكتور ) ، فالعجيلي رحمه الله صديق الجميع وبعد وفاته اطلع أبناءه على كثير من الوثائق في العمل الإنساني على طول مسيرته كان لايذكرها لهم ، كان وفياً لبيئته ومجتمعه كان كالنخلة التي تعانق السحاب شماخة وسعفاتها باتجاه الأرض منحنية بإجلال وكأنها تقدم الإمتنان والشكر للأرض التي أنبتتها على خلاف كل أشجار الطبيعة .
فمن عيادته وثق آلامهم ومواقفهم الطريفة ، ومن الديوان وثق قصصهم ونضالاتهم وأضفى على سرديتهم الفنية التي نقلت أدب هذه البيئة للعالمية من خلاله.
والعجيلي ارتبط بمواقف وذكريات مع الرقييّن على اختلاف مشاربهم ليس الطبقة المثقفة فقط .. بل كان حاضراً حتى في غناءهم الشعبي :
” غربي طاحونة عياش ..حس النجر بالليلي
” واني دخيل الدكتور … عبدالسلام عجيلي
الرقة التي أحبها العجيلي هي برجه العاجي الذي اتهمه بعض منتقديه بأنه يعيش به فرد عليهم : ” تعالوا وانظروا في أي برج أنا أعيش ،أنا أعيش في برج من الوحل، الرقة بلدتي وأنا أغوص في طينها ” .
ولشدة إرتباط العجيلي بالرقة وأهلها كان عندما يأتي إلى دمشق ينزل بالفندق رغم وجود بيت له في أفخم أحياءها ،معللاً ذلك بأنه لا يريد التعلق والإرتباط بمكان غير الرقة تكون له ذكريات به .
عندما علم العجيلي بأنه سيكرم بوسام الإستحقاق السوري حاول الإعتذار وشطب اسمه لكنه لم يتمكن من ذلك وقال يومها لزواره معلقاً :”أنا محرج تماماً وأفكر منذ الآن ماذا يمكن أن أقول فأنا لا أحب هذه اللحظات، لا أحب الأشياء غير المنتجة وغير العملية، وحين يأتي الآخرون على ذكر التكريم تحضرني حادثة مرّت بي، ففي يوم جاءني ابن عم لي يحمل كيساً وقال هذه هدية لك، فتحت الكيس وإذ بداخله عنقود عنب، سألته :ما هذه الهدية؟! فقال إنها ليست مني (وقريبي هذا يعمل سائق شاحنة)
قال: كنت أقود على بُعد 100كم من الرقة ونزلت إلى أحد البيوت المجاورة للطريق لأشرب وحين علم صاحب البيت وجهتي قال :أريد أن أبعث معك أمانة إلى عبد السلام العجيلي إن كنت تعرفه فقطف هذا العنقود وقال:
قل له”إن هذه الهدية من شخص كان بدوياً وأصبح فلاحاً وزرع كرمه وهذا أول عنقود يقطفه منها”
ويتابع العجيلي قائلاً: طبعاً أنا لا أعرف هذا الشخص ولا يعرفني وقد تبدو هذه الحادثة عادية لشخص لا يعرف معنى الإنتقال من مرحلة البداوة إلى مرحلة الفلاحة. “
لقد اعتبر العجيلي هذا العنقود من العنب من ارفع الأوسمة والتكريمات التي تلقاها في حياته .
بموت العجيلي لم تفقد الرقة كاتباً وطبيباً وسياسياً وابناً باراً بها فحسب ، لقد فقدت النُبل بشخص العجيلي الذي أجمع كل من عرفه عن قرب وأدرك البعد الإنساني لديه أي رجل نبيل فقدت الرقة.
عبدالكريم العفيدلي