إدمان الإنترنت مؤشر على اضطراب العصر

يُعرف العصر الحالي بعصر العولمة ومع التطور التاريخي الذي حدث للمجتمعات أصبح معه العالم يشبه القرية الصغيرة خاصةً مع ظهور الانترنت الذي سهل السبيل إلى أن يتعرف الناس على أحوال بعضهم البعض ولا يكون الزمان والمكان عائقًا لتواصلهم، كما يسّر قنواتٍ متنوعة للاتصال والتفاعل بين البشر على اختلاف ألوانهم وعرقياتهم، كالبريد الإلكتروني وغرف الدردشة وشبكات التواصل الاجتماعي المختلفة، ولكن كثرة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي من قِبل مستخدميها وقضاءهم الساعات الطوال في استعمالها أثّر سلبًا على حياتهم من جوانب عديدة؛ الأمر الذي دفع كثيرًا من الباحثين إلى دراسة تلك الظاهرة والتعرف على أسبابها وتأثيراتها على مستوى الأفراد والمجتمعات.

   إن تسمية الإنترنت بالشبكة العنكبوتية تسمية لا تخلو من مدلول، ففي حين أن استخدامه على النحو المنضبط يجلب للمستخدم منافع وفوائد لا يمكن حصرها، كذلك فاستخدامه وارتياده على نحو لا يخلو من استهتار وانعدام للمسؤولية يوشك أن يوقع صاحبه في شراك غير مأمونة ومزالق أكثر خطورة، ويغدو حينئذٍ أسيرًا له، منقادًا إليه، معتادًا على استخدامه في كافة ممارساته وفاعلياته اليومية، حتى يصل في نهاية المطاف إلى إدمانه بالكلية، وقد أشارت بعض البحوث في ميدان علم النفس نتائج كارثية فيما يتعلق بالإدمان على الإنترنت، لاسيما شبكات التواصل الاجتماعي، إذ أشارت بعض البحوث إلى أن أكثر العوامل الدافعة بالمرء إلى إدمان شبكات التواصل المختلفة، هما: الشعور بالوحدة، وانعدام تقدير الذات.

   ولا شك أن إدمان مواقع التواصل الاجتماعي صورة من صور الإدمان التكنولوجي أو الإدمان غير الكيميائي ينتج عن علاقة تفاعلية بين المستخدم والأداة الرقمية، أو هو نوع من الإفراط في الاستخدام غير المثمر لمواقع التوصل الاجتماعي لملء أوقات الفراغ.

   ومما تجدر الإشارة إليه أن أبرز أعراض هذا النوع من الإدمان تتمثل في: العزلة الاجتماعية، وعدم الرغبة في تكوين العلاقات الاجتماعية؛ مما ينتج عنه فقدان مهارات التواصل مع الآخرين وعدم وجود الوقت الكافي لممارسة الهوايات المفضلة وعدم السعي لتطوير المهارات المرتبطة به، علاوة على حدوث مشكلات عديدة في النوم سواءً كان الفرط في النوم أو عدم القدرة على النوم لوقت كافٍ، بالإضافة إلى الإرهاق الجسدي والنفسي.

   وللأسف الشديد قد تمتد تلك الأعراض إلى ظهور أعراضٍ أخرى تتعلق بالصحة العامة كالمشكلات الصحية المتمثلة في جفاف العين، وآلام الظهر، وإهمال النظافة الشخصية، وهناك دائمًا في كل الأحوال الحاجة الملحة لاستخدام الموقع أكثر من الوقت المقرر له، مع عدم القدرة على التوقف.

   وفي سياق متصل فإن أهم الانتقادات التي وجهت لشبكات التواصل الاجتماعي تورطها في اغتراب الفرد اجتماعيًا عن أسرته وأقرانه وبيئته الخارجية، وصناعة عالم افتراضي يعتمد على الكذب المفرط أثناء ساعات التواصل مع الآخرين، وتشير غالبية الدراسات بأصابع الاتهام إلى مجموعة من العوامل التي تضافرت فيما بينها وشكلت في مجملها بيئة خصبة لهذا النوع من الإدمان التقني، لعل أبرزها: عدم قدرة المستخدم في أرض الواقع على إقامة علاقات اجتماعية جرّاء انطوائيته المفرطة وشعوره بالخجل أمام الآخرين.

   وكذلك شعوره بالفراغ الاجتماعي وفقدان الحب والاهتمام، علاوة على رفض الواقع والهروب منه إلى عالم افتراضي يستطيع من خلاله أن يقدم نفسه للآخر في صورة مبهرة، إضافة إلى وجود وقت فراغ كبير والإهمال في استثماره على نحو يجلب الفائدة والمنفعة. وبوجه عام فإن الفرد الذي يفتقر إلى الثقة بالنفس، ويشعر داخليًا بالتمرد على واقعه، ولا يمتلك هدفًا يستحق أن يسعى إلى تحقيقه، ويواجه مشكلات تتعلق بمزاجه الشخصي وعلاقاته بالعالم الخارجي يكون من السهل جدًا وقوعه فريسة في حبائل إدمانه على شبكات التواصل.

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا هو: هل هناك مخرج حقيقي؟ هل هناك علاج للتخلص من ظاهرة الإدمان على شبكات التواصل الاجتماعي؟ والجواب: قطعًا، نعم، ولكن قبل أي شيء لابد من الاعتراف بوجود المشكلة أولًا؛ حتى يتيسر علاج الفرد الذي يعاني منها ولديه رغبة في التخلص كلية من الاعتياد المتكرر أو الاستخدام الطويل لتلك التطبيقات الرقمية، أو على أفضل تقدير التعامل مع الآلة بشكل طبيعي. إن من المفيد كخطوة أولى للعلاج، وكوسيلة مُثلى أيضًا للإدارة الجيدة للوقت هو القيام بعمل جدول زمني لاستخدام مواقع التواصل الاجتماعي، ووضع خطة محددة للأهداف المرغوبة والعمل على تحقيقها؛ حيث إن ذلك يحد من وقت الفراغ الزائد، ويساعد على ترتيب الأولويات وإنجاز المهام اليومية.

إننا بحاجة دائمة إلى أن ندرك أن أعمارنا في الحياة وإن طالت قصيرة محدودة، ومن ثم يتعين على كل عاقل أن يصرف عزيمته وعقله إلى إنجاز أهدافه الجليلة، والاعتناء بتطوير ذاته، ولذا لابد أن يعطي حياته الحقيقية أولوية تفوق الحياة الافتراضية، كما لا ينبغي أن ينسى في خضم حياته ومسؤولياته أن يعزز صلته بخالقه؛ فكلما تقرب من ربه صغرت بعينه الأمور الدنيوية، وأدرك أن الدنيا فانية فيعمل دائمًا ليوم الحساب.

وجملة القول: إن الإنترنت بوجه عام وشبكات التواصل الاجتماعي بوجه خاص صار جزءًا من توليفة الحياة التي نحياها في عصرنا الحالي، وأسهم في تغيير أنماط تفكيرنا والطريقة التي نتفاعل بها مع الآخرين في العالم الخارجي، لكن مع الإفراط في الاعتماد عليه وامتداد الساعات التي نهدرها عبثًا على مواقع التواصل الاجتماعية المختلفة أسفر ذلك عن ظهور مرض جديد، اسمه: إدمان مواقع التواصل الاجتماعي، وقد أشارت العديد من الدراسات إلى أضراره، ونبهت إلى مخاطره، وأنه قد يؤدي على المدى البعيد لفقدان الفرد لصحته النفسية والجسدية، واستنادًا لما تقدم فعلى المرء أن يقي نفسه من تلك المخاطر، وأن يُعنى دومًا بأوقات فراغه، وأن يعرف جيدًا كيف يغتنم هذا الوقت بطرق وأساليب تعود عليه بالنفع، وأن يضع له أهدافًا يسعى لتحقيقها، وعليه أيضًا أن يكون دائم القرب من ربه ليدخل في معيته.

هيا فيصل الغامدي

مقالات سابقة للكاتب

تعليق واحد على “إدمان الإنترنت مؤشر على اضطراب العصر

نوار بن دهري

مقال فائق الروعة في إسهاب في وصف المشكلة وعرض السبل لحل تلك المشكلة التي أصبحت مشكلة العصر بدون أي جدال. سلمت يداك أستاذه هيا. واصلي الكتابة فعندك أدوات رائعة في السرد اللغوي المتناسق للمقال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *