الموت بعيون الحياة!

نحن لا ندري أين ينتظرنا الموت حقاً؛ فننتظره نحن في كل مكان.
ترصُّدُنا للموت هو ترصُّدٌ للانعتاق من الخوف منه.
فمن يتعلم كيف يموت؛ يُزيِّل عن كاهله كيف يكون رهينةً لمخاوفه، ومعرفتنا كيف نموت؛ تمنحنا القدرة الكافية على عيْش الحياة.
فمن بداية الوعي الإنساني كان إدراكنا للموت يرعبنا، وهذا الرُّعب حَدَّدَ شكلاً لمعتقداتنا، وأنظمتنا الذهنية، وصاغ سلوكياتنا على نحو كبير بطرق لا نستطيع فهمها أو إدراكها؛ فقد أصبحنا نحن بني البشر ضحايا مخاوفنا ومراوغاتنا العقلية.
إنَّ مشكلة أغلب بني البشر؛ أننا ندرك فكرة موتنا، إلاَّ نخشى أنْ نتعمق في هذا الإدراك، بل أننا نُديّر ظهرنا له. ورغم ذلك علينا أن نرى في الموت نوعاً من الموعد النهائي المستمر.
وهذا يتطلب منا الانتباه لهذه الحقيقة، وأن نجعل منها مناط تأمُّلنا الدائم، على الرغم من أنَّ أذهاننا منجرفة إلى المستقبل الذي ستحقق فيه كل آمالنا وأمانينا بزعم قلوبنا وعقولنا.
إنّ الاقتراب من الموت من شأنه حَمْل النفس إلى الانتباه واليقظة؛ مما يجعل الذهن يركز بمستويات عالية؛فتلاحظ تفاصيل جديدة، ونرى وجوه الناس من زاوية جديدة، ونحس بسرعة زوال كل شيء حولنا.
وبناءً على ذلك؛ فإن وعينا بقصر الحياة؛ يضع نهْجاً لأفعالنا اليومية، ونحن بهذا الوعي المستمر؛ يمكننا أن ندرك أنَّ الخصومات الصغيرة، والاحتدامات البسيطة ليست إلاّ ملهيات مزعجة تشغلنا عن الاستمتاع بحياتنا.
فالاقتراب من الموت، أو من الأمراض التي تهدد بالموت؛ يزيل سفاهة الطَّباع، ويمحو الضغائن من نفوسنا، ويجعلنا نرى الحياة بعيون مختلفة.
فمشهد الموت سيرتق البيّن، وهذا المعنى الوجودي للموت يمنحنا معنىً مختلفاً للحياة؛ فقد تبدد إحساس الناس الطبيعي بالاختلافات والامتيازات، وبزغ تشاعُّرٌ عام لم يسبق أن كان شائعاً بين الناس.
ودورنا أن نبدأ ذلك التَّشاعُّر على نطاق صغير بالنظر أولاً فيمن حولنا،في بيوتنا وعوائلنا، وأماكن عملنا؛ فنبصر موتهم ونتخيله، ونلاحظ كيف يمكن لذلك أن يغير فهْمنا لهم.
ولعلَّ منبع هنا التشاعُّر هو ذلك الألم العميق الذي ينشأ ونحسه عند موت كل روح حبيبة، ففي كل إنسان خصلة يتعذر علينا تفسيرها خاصة به وحده، وعلينا أن نرى ذلك التَّفرُّد في ذلك الإنسان في الوقت الحاضر عندما يكون موجوداً بيننا، ويمكننا أن نشعر بإمكانية أن يصيبه الألم والموت، ولا نكتفي بالشعور بإمكانية أن يصيبنا نحن فقط.
كذلك يمنح الاقتراب من الموت صاحبه إلى التسليم والرضا بقضاء الله وقدره، وأن الأحداث مقدرة، فكل شيء يحدث لسبب، ودورنا اكتشاف الحكمة منه.
أيضاً يعطينا الاقتراب من الموت فرصةً مثالية للانسحاب من صخب الحياة، فرصةً لإبطاء خطانا، وإعادة تقييم أفعالنا، وتقدير نعمة الحياة التي نعيشها، كما أنّ الاقتراب من الموت يجعلنا نسير وفق النهج الأسمى للتعامل مع الحقائق القاسية في الحياة والتي يأتي على رأسها الموت.
بهذا الفكر الواعي، والبصيرة النافذة؛ نجد أنه من الصعب علينا أن نتشبّث بإحساسنا بالأهمية العظمى لأنفسنا، والشعور بأننا متميزون عن غيرنا، وكلما تعمَّقْنا في صنع هذه الرابطة العميقة مع الناس؛ تحسَّنتْ قدرتنا على التعامل مع الطبيعة البشرية بكل صورها بتسامحٍ وحِلم.
إنَّ وعينا الجديد بالموت؛ يصنع لنا صورة جديدة عن كيفية التعامل مع الناس في سبيل التَّخلُّص من الخلافات والنزاعات الشائكة التي تعكر علينا صفو الحياة.

سليمان مُسْلِم البلادي
solimanalbiladi@

الحلقات السابقة من روشتة وعي

2 تعليق على “الموت بعيون الحياة!

أحمد بن مهنا الصحفي - أم الجرم

ذكر الموت للنفوس مهذبا ! وللعمل من باب الاستعداد لمابعده دافعا ..
(الله تعالى أذل بني آدم بالموت ، وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت ، وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء..
(لولا ثلاث ما [ ص: 191 ] طأطأ ابن آدم رأسه : الفقر والمرض والموت ، وإنه مع ذلك لوثاب ).
الغافل الدائم هو من لايذكر الموت ، ومن أراد النباهة فليزر الأموات ..
أيها الكاتب ياصاحب القلم ذي المداد الوهاج شكرا لك !

سليمان مُسْلِم البلادي

كل الشكر والتقدير أستاذنا القدير أحمد بن مهنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *