أتعلم.. لن أحدثك عن أثر صَحبك ومحيطك عليك بما تحفظُه وربما تسرُدُه، لكني أدعوكَ أن تتفكر قليلًا لتلاحظ الكلمات التي تعلّمتها منهم، والأعمال التي اعتدتَ أن تفعلها بسببهم، والأمور التي ما عُدتَ تقوم بها خجلًا منهم، أو لأي سببٍ آخر أوقفك وكانوا هم طرفًا فيه. ولذلك أقول لك: أحط نفسك بالطيّبين، وتأمل في جمال أقوالهم وفِعالهم، واختر بوعي ما تقلدهم فيه حتى يصير من شِيمك وطبعك.
نحن بشر نتأثّر ونؤثّر، كوننا نقصد أن نُؤثّر في الناس أو لا نقصد هذا خارج الموضوع، وأما ما بداخله فأن نراقب أنفسنا حتى لا ننقل لغيرنا سيئات أعمالنا، وأن نأخذ من الناس عمومًا وأحبابنا خصوصًا أحسنَ ما يتحلّون به.
وكي يتبدّى لك أثر البيئة بكل أُناسِها جُملةً؛ فانظر إلى محيطك: فإن كان سبّاقًا للخيرات؛ وجدتَ انقياد نفسك إلى دروب الخير يسيرًا. وإن كان محيطك ليس بالسبّاق؛ رأيتَ قيادة نفسك لمواضع الخير عسيرًا! ذلك أن الإلف والتدرّب متوفرَين في المحيط الأول، عكس المحيط الثاني الذي يتطلّب جهاد النفس. وإنْ كان لكِلا المحيطَين تربية فردية نفسية خاصة: فمَن أعانَه محيطُه كان عليه باستمرار أن يتفقّد إخلاصه لله تعالى، وأنه لا يفعل ما يفعله لأن الناس يفعلون. ومَن انفرد بالخير دون محيطِه السيء كان عليه باستمرار أن يترّقى بنفسه ولا ينساق لبيئته، بل لعله يأخذ زمام نفسه فيُلزمها البِدار؛ ليكون لغيره قدوةً تحملهم على الطاعة.
أضف إلى شواهد قوة التأثير البيئي ما يحدُث في قرارة نفسك: فالنفس في بيئةٍ يفعل أهلها الصالحات تنتهي قرارة السويّ أن يؤنب ذاته عند التقصير، فيُحدّثها “ذهب القوم بالطاعات والحسنات؛ ولَمّا ألحق بهم!” في حين أن حديث النفس في البيئة الراكدة النائمة عن الصالحات والمعتادة على السيئات سيميل غالبًا إلى “لعلي أفضل القوم، فهم يفعلون كذا وكذا من الشرور وأنا لا أفعل!”.
فتنبّه لمحيطك، وخذه بالعدّة اللازمة له: الإخلاص والتنافس في المحيط الجيد، والمبادرة وعدم الاغترار بالحال في المحيط السيء.
وأنت ترى كيف يكون الصيام أيسر حين يُصبح كل مَن تعرفه صائمًا، وكيف يكون أصعبَ حين لا يصوم إلا إياك! وفي كِلتا الحالتين عبوديات واختبارات؛ تأملها واستعد لها باللازم؛ فالفهم والاستعداد مظنّة النجاح في الامتحانات.
والصيام قرينُ رمضان في الذكر أصالةً، وشهر رمضان يبني القيم. “تُرى ما الذي أعان هذه الجموع على الصيام في رمضان رغم طول ساعاته وأيامه؟ ما الذي جعلهم يؤدونها في أجواء مشاعرية، تبلغ بهم درجة الفرح والسرور رغم كُلفتها؟ هكذا تصنع الأوساط الإيجابية فتُحيل كثيرًا من صور التكاليف إلى مثل هذه المعاني البهيجة في واقع الإنسان.” [رمضان يبني القيم، د. مشعل الفلاحي، ص(32)] فإن لمستَ هذه القدرة العجيبة للمحيط الطيّب على حفزِك وسحبك للعبادة في رمضان؛ فالزم هذه القيمة، واختر ناسها، وتحرّى خير الأوساط والصّحب لحياتك.
ألا يكفيك دلالةً على أهمية هذا المعنى ما تقرؤه كل جمعة؟ قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28] ففي الآية “أمر تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، وغيره أسوته في الأوامر والنواهي، أن يصبر نفسه مع المؤمنين العباد المنيبين… ففيها الأمر بصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على صحبتهم، ومخالطتهم وإن كانوا فقراء فإن في صحبتهم من الفوائد، ما لا يحصى. {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} أي: لا تجاوزهم بصرك، وترفع عنهم نظرك. {تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فإن هذا ضار غير نافع، وقاطع عن المصالح الدينية، فإن ذلك يوجب تعلق القلب بالدنيا…” [تفسير الشيخ السعدي]
إن وجدتهم فلا تعدُ عنهم، وكُن لهم كما هم لك، وأبشر. عسى الله أن يجزيَ بالخير كل ذي أثر طيّب مستقيم، وأن يجمع في الجنان كل صَحب خيّر كريم.
جمانة بنت ثروت كتبي
مقالات سابقة للكاتب